فريدة النقاش حلت قبل أيام الذكرى الأولى لرحيل المفكر وأستاذ علوم القرآن «نصر حامد أبو زيد» والذكرى الخامسة لرحيل المحامي والمناضل السياسي الشيوعي «نبيل الهلالي». وثمة وشائج تربط بين الراحلين العظيمين رغم اختلاف ميدان وموضوع كل منهما في البحث والتفكير والممارسة، فكلاهما وقف ضد السائد بجسارة وكلاهما تعرض للملاحقة والمصادرة وقطع الطريق الذي قامت به القوي الرجعية علي المشروع الذي وهبه حياته.
وللإقصاء والتكفير تاريخ قديم في حضارتنا، وكانا عاملين عطلا نموها وتجددها وريادتها رغم أن الحضارة العربية الإسلامية كانت قد أضاءت العالم لثمانية قرون.فابن المقفع هو من أشهر المفكرين الأحرار في التاريخ الإسلامي والذين جرى قتلهم والتمثيل بهم متهما بالزندقة وإفساد الناس، وإن كان مؤرخون كثيرون يرون أن السبب الحقيقي لقتله بطريقة بشعة هو مواقفه السياسية لا الدينية، فهو الذي دعا إلي «الامتناع عن الإيمان» بما لا نعرف أو التصديق بما لا نعقل».وإذا كان مصير ابن رشد أفضل قليلا فإن كتبه أحرقت وجرى نفيه بسبب أفكاره كأحد مؤسسي النزعة العقلانية في الثقافة العربية الإسلامية. وفي بداية القرن العشرين صادرت الرجعية الفكرية والسياسية كتاب «طه حسين» في الشعر الجاهلي وقدمته للمحاكمة ولم يتوفر هذا الكتاب التأسيسي الذي استخدم منهج الشك العلمي في زمانه للقراء إلا في السنوات الأخيرة أي بعد ما يقرب من قرن من كتابته.وفي منتصف القرن العشرين صادرت الرجعية الدينية كتاب الشيخ علي عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم» الذي نقض مفهوم الخلافة الإسلامية علميا وجرى فصل الشيخ من هيئة كبار العلماء في الأزهر.وفي هذا المنتصف نفسه نشبت أزمة دراسة الدكتور محمد أحمد خلف الله «للفن القصصي في القرآن» التي أشرف عليها الشيخ «أمين الخولي» وفصلوا خلف الله من الجامعة وحرموا الخولي من الإشراف على رسائل في القرآن ثم كان تقرير الشيخ محمد الغزالي الذي أوصى بمصادرة رواية «نجيب محفوظ» أولاد حارتنا وجرى وقف نشرها مسلسلة في الأهرام والشيخ الغزالي هو نفسه الذي قدم شهادته أمام المحكمة مطالبا بتبرئة قتلة المفكر الإسلامي الدكتور «فرج فودة» صاحب «الحقيقة الغائبة» وهو الكتاب الذي برهن فيه «فودة» على أن عصر الخلافة لم يكن عصرا ذهبيا ولا يحزنون، وأنه شهد صراعات دامية بين الخلفاء وأنصارهم من أجل السلطة السياسية والسيطرة على بيت المال.ولم تكن محاولة اغتيال نجيب محفوظ ماديا هي آخر المحاولات لمصادرة الحرية الفكرية عمليا ومعنويا وقانونياً، إذ ما أن انتشر اتجاه نصر حامد أبو زيد في تأويل القرآن، إلا واندلعت العواصف من جديد، وتحالفت الرجعية الفكرية والسياسية لإدانة منهج التحليل التاريخي الاجتماعي الذي اتبعه ليبين للناس أن الأفكار هي ثمرة العلاقة الجدلية بين حركة الواقع وموقف هذا المفكر أوذاك من هذا الواقع، وهو المشروع العقلاني الذي واصل بناء التقاليد العلمية الموضوعية التي عرفتها ثقافتنا في عصور ازدهارها، ثم ألقت عليها عصور التراجع والانحطاط ستراً سوداء كثيفة لتحجبها عن الجماهير الواسعة، وتبقي الأخيرة أسيرة الخرافة والفكر الجبري الذي سبق أن ابتكره بنو أمية لتبرير استبدادهم وقيادة الناس في الاتجاه الذي يخدم مصالح الحكام.تمحور المشروع العلمي «لنصر حامد أبو زيد» والذي اختطفه الموت قبل أن يستكمله حول عقلنة الخطاب الديني الراهن وربطه ليس بالتاريخ فقط وإنما بالمجتمع وفتح أفق للمستقبل، وكانت قضية المرأة واحدة من القضايا الرئيسية التي درسها وقال في هذا السياق إن قراءته الحركة الداخلية للنص القرآني وصلت به إلي أنه بوسعنا أن نساوي بين الرجل والمرأة في الميراث دون افتئات على النص الديني.وقصة تطليق زوجة نصر حامد أبو زيد الدكتورة «ابتهال يونس» أشهر من أن نحكيها وذلك حين اتهم بأنه مرتد، وكان نتيجة هذا الحكم المأساوي هو خروجه من البلاد شبه منفي وابتعاده عن جامعته وتلاميذه، مع نشر الذعر من منهجه في أوساط الدارسين والباحثين وهو ما سبق أن حدث مع طه حسين وخلف الله وعلي عبد الرازق وفرج فودة وعشرات غيرهم، أي أن المصادرة وهي بنت الاستبداد السياسي والرجعية الفكرية قطعت الطريق على تجديد الفكر ومن ثم تجديد الحياة نفسها، ولكن هذا ليس كل شيء فإن الحياة تمضي وتأتي أجيال جديدة هي بنت الثورة والحرية الفكرية لتزيح الستر عن هذا التراث العظيم وتضيء به حياتنا..أما مسيرة نبيل الهلالي وأفكاره فإلى العدد القادم.
«نصر» وتاريخ المصادرة
نشر في: 5 يوليو, 2011: 05:11 م