بغداد/ إيناس طارق.. عدسة/ محمود رؤوف
كانت تشعر بالخجل من أن يراها احد وهي تقلب الملابس المتناثرة على أسطح عربات خشبية، صفت جنبا الى جنب في سوق منطقة الكاظمية، الذي يضم العشرات من المحال المتناثرة هنا وهناك، تتوسطها أحيانا "بسطيات" تعلو أصوات أصحابها معلنين عن "فتح بالة جديدة تضم ملابس جميلة للشباب وجديدة للأطفال"، و"فرح أطفالك بملابس العيد"، وغيرها من الجمل التي يرددها أصحاب البسطيات لجذب النسوة والرجال على حد سواء لشراء ملابس العيد لأطفالهم!
حال الفقراء
لسان حال الفقراء يقول: " عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد" وها هو رجل في العقد الرابع أمامي وجدته يشعر بنوع من الضجر وهو يقلب الملابس وكأنه قد اقترف ذنباً ما، لانه يشتري ملابس اللنكه لأولاده! ابو مروة متزوج وله أربعة أطفال يأتي إلى سوق البالات من أجل أن يشتري ملابس العيد حيث أسعارها تكون رخيصة ونوعيتها جيدة، يقول: "أنا اعمل باجر يومي لا يتجاوز الـ10 آلاف دينار، ادفع منها إيجار بيت، وتوفير مستلزمات عائلة كاملة متكونة من 8 أفراد، والدي ووالدتي يعيشان معي، وهما بحاجة دائما إلى الدواء. ولا يمكن أن يأتي العيد وأولادي يرتدون ملابس قديمة، وان كانت من البالة فهي أفضل من إحساسهم بأنهم لا يرتدون ملابس عيد جديدة كبقية الأطفال.
أصوات وفضول
الأصوات تتعالى في السوق وأخذنا الفضول في تقليب بعض الأنواع من الملابس التي كان يتهافت على شرائها نساء يرتدين أجمل الملابس ولا يتوارن عن الأنظار وهن يقلبن ويعاملن البائع، حيث قالت سلوى وهي موظفة في إحدى الوزارات: هناك من يقول إن الملابس المستعملة سيئة ورائحتها تثير الاشمئزاز لمن يرتديها، لكن، بالعكس فسوق البالات يجتذب إليها الشباب والشابات والذين يرغبون في ارتداء ملابس مستورده ومن يملك الإمكانية المادية التي لا تسمح لهم بالذهاب إلى سوق المنصور أو الكرادة ، وتستدرك سلوى قائلة: إنها تأتي الى السوق تقريبا كل شهر مع العديد من زميلاتها الموظفات لشراء ملابس جيدة ونظيفة وأسعارها لا تتجاوز 5 آلاف دينار وذات ماركة عالمية وأفضل من بقية البضائع الموجودة في السوق التي تكون غالية وسيئة أحيانا .
أم عبد الله كانت واقفة بجانب الموظفات وهي أرملة في العقد الرابع من العمر قالت: أعيل ثلاثة أولاد وأربع بنات توفي زوجي عام 2005 وكان يعمل في إحدى مدابغ الجلود في النهضة ولكن معامل الدباغة أغلقت أبوابها، وانا ابيع الخضروات في منطقة سكني من اجل ان أوفر لقمة العيش لأبنائي ويزداد حزني وألمي والدموع لا تفارق عيوني عندما أرى من هم في عمر أولادي يرتدون الملابس الجديدة والنظيفة في العيد، لهذا لا أجد غير ملابس اللنكه لأجعلهم يحسون بالعيد كبقية الأولاد وان كانت ملابسهم مهلهلة قديمة فهذا حالنا نحن الفقراء.
أسعارها تنافسية
أسعار البالات ككل البضائع فيها الرخيص وفيه الغالي نسبيا، وتبدأ أسعار ملابس البالات من 500 دينار وتصل إلى 50 الف احيانا، اما بالنسبة الى الأحذية والحقائب فقد يصل ما تم استخدامه استخداما خفيفا إلى 20 الف دينار. يقول حسن الشاب الذي كان يصعد فوق بسطيات الملابس المستعملة للأطفال ويلوح بالقطع ويصرخ "خمسة بخمسة فرح أطفالك بالعيد"، خلال أيام العيد تزداد بيع البالة خصوصا للأطفال لان الناس الفقراء وأصحاب الدخل المحدود يأتون إليهم لشراء عدة قطع بدلا من واحدة وهي رخيصة ويستطيعون اختيار ما يرغبون، وهناك بالة نظيفة وبالة قليلة النظافة ونحن نقوم بعزلها، وتحديد سعرها .
جاره البائع أبو صلاح الذي كان يرتدي قبعة على شكل "مكي ماوس" ويحمل قبعات بيده بكل صراحة كانت جميلة جدا وذات ألوان زاهية سألناه عن سعرها فأجاب 2000 دينار يا بلاش!. عرض علينا شراء واحدة لكن ترددنا لعدة أسباب سوف نذكرها لاحقا في تحقيقنا، المهم باغتنا أبو صلاح بقوله: هل تخافون ارتداء البالة هي تخضع إلى الغسل والتعقيم جيدا قبل ان تأتي الى العراق ولا عيب اشتروها واغسلوها من جديد وأسعار العطور رخيصة يمكن أن تخفي راحتها.
الشتاء والكساد
لم يثر هذا الكلام اهتمام كريم محمد احد باعة البالات في السوق بل اشتكى من ركود سوق البالات معلقاً بقوله: كان فصل الشتاء هو الموسم المثالي لبيع البالة ، وكنا ننتظر موجة البرد ليشهد سوقنا ازدهارا خصوصا القماصل الجلدية لكل الأعمار، وهناك تجار دخلوا إلى هذا السوق وبدأوا بجلب بضاعة رخيصة وقديمة جدا وأحيانا ملابس تشترى من المنازل من قبل الدوارة طروحها في سوق "اللنكه" مما جعل اغلب الزبائن يجدها غير جيدة في حين ان بعض البضائع تنافس الصيني والسوري حتى من حيث النوع والجودة، وأسعارها تفوق 100 ألف دينار لملابس الكبار وهناك زبائن مميزون من ذوي الدخل الميسور الذين يحبون التميز والتفرد في نوعية لباسهم واشار كريم في حديثه الى ان البالة تنافس بقوة أسواق الملابس الجديدة الجاهزة، خصوصا في ما يتعلق بالملابس الجلدية والقطنية وكذلك الألعاب.
جولة وحديث
احد الزملاء كان معنا عندما كنا نتجول في سوق البالة الواقع في منطقة الكاظمية ذكر انه عندما كان طالبا وسافر إلى المانيا اخبره صديقه الذي سبقه هناك للدراسة بأنه يوجد سوق كبير يعرض فيه كل شيء مستعمل وليس الملابس فقط، ولان العراقي هناك محكوم بمبلغ معين ولا بد من اختصار نفقاته، وافق على الذهاب لاقتناء (ملابس جديدة) تليق بالبلد الجديد وان تكون ماركة إضافة الى ان الشتاء قارس البرودة ويحتاج إلى ملابس إضافية، تفاجأ زميلنا حسب تعبيره! بأن دولة متطورة اقتصاديا، يمكن ان يقتنوا أجهزة وملابس مستعملة. ويستدرك الزميل بقوله :بدأت وأنا ادخل هذا السوق المنظم بشكل يجعلك تشك في أن ما يتم عرضه فيه هو مستعمل كل شيء مرتب نظيف لائق يجذب الزبائن، لا رائحة تثير رغبتك بالعزوف عن الشراء خوفا من أن يشم عطرها من حولك ويفضحك بقول ملابسك من "اللنكه" تذكرت وقتها أسواق الباب الشرقي والكاظمية وبغداد الجديدة وساحة الطيران وتمنيت لو أن فقراء العراق يأتون إلى هنا لشراء ما يحتاجون اليه لأنهم حتما سوف يكونوا سعداء لان هذا السوق في ألمانيا يسمى سوق الفقراء.
تجار السوق
حقيقة لو قارنّا وضع العراق الصعب وعدد الفقراء وممن هم تحت خط الفقر، وعدد العاطلين عن العمل لوجد أنه من الطبيعي في مثل هكذا ظروف أن يلجأ الكثير الى سوق البالة، حيث علق احد التجار ويدعى صابر الكرطاني ويبلغ العقد الخامس من العمر، والذي عرف نفسه إلينا بعد أن وقفنا أمام محله والعمال يفتحون البضاعة ويقومون بعزلها: الملابس المستعملة تجتذب الشباب والشابات الذين يرغبون في ارتداء ملابس مستوردة لكن إمكاناتهم المادية ضعيفة لا تسمح لهم بذلك كما لا تمكنهم من شراء ملابس جديدة محلية لكن المستهلك تنبه الى حقيقة كون الملابس المستوردة لا يزيد سعرها كثيرا على أسعار " البالة " فصار يشتري الملابس العادية الصنع، بعد عام 2003 انخفضت تجارتنا كثيرا بسبب انفتاح الاستيراد وتوفر البضاعة الجديدة التنافسية في أسعارها رغم ضعف كفاءة مناشئها فالبضائع الجديدة الرخيصة ترد غالبا من سوريا والصين.
الخليجية أكثر إقبالا
وعن مصادر استيراد البضاعة يقال أن تجار البالات الكبار يأتون بها من منفذين حدوديين هما شمال العراق من خلال تركيا، والمنفذ الآخر هو من جنوب العراق في محافظة البصرة وموانئها من خلال دول الخليج، وهناك إقبال ومنافسة كبيرة على البضائع الإماراتية التي تتميز بنظافتها وجودتها وخصوصا الزي الخليجي المسمى "العباءة "النسائية والتي تتراوح أسعارها ما بين 25 - 50 ألف دينار. اما بالنسبة الى البضائع القادمة الآن فهي شتوية حيث أسعار المعاطف الشتوية والقمصان الجلدية تتراوح ما بين 10 دولارات وصولا إلى 50 دولاراً، ويضيف أن هناك معاطف وملابس شتوية وصيفية غير مستعملة، لكنها تندرج ضمن المستعمل.
تاجر آخر رغب في الحديث عن تجارة البالة ويدعى ابو هند قال: منذ عام 1993، كنت أملك عربة صغيرة وأبيع الملابس القديمة التي نحصل عليها من الدوارة، وقليل من الملابس المستوردة لأنها تقريبا كان لا يسمح باستيرادها، لكن أسهل الطرق كانت في شراء الملابس وكيها وإدخال بعض (الترتيبات) عليها لبيعها بأسعار خيالية والغريب في الأمر أن زبائنها الذين كانوا يعتبرون ملابس البالة مصدرا للجراثيم ونقل الأمراض المعدية وينقلون أقدامهم بعيدا عنها، صاروا يشترونها من تلك المحال لاحتوائها على تصاميم أجنبية حديثة وجريئة تستهوي الشباب والفتيات.
سوق ساحة الطيران
استمرت جولتنا في أسواق البالة والمحطة الأخيرة كانت سوق ساحة الطيران خلف الكنيسة، قرب الساحة عمارة تتكون من ثلاثة طوابق كانت سابقا محال لتصليح التجهيزات الكهربائية، يباع فيها مختلف أنواع الشامبوات والعطور، الملابس والأواني المنزلية ذات الماركات العالمية ومختلف الأجهزة الكهربائية المستعملة جديدة جدا وذات مناشئ أوربية أو صينية مصدرة لأوربا وهذا ما ذكره فارس قاسم صاحب محل لبيع الأجهزة التلفزيونية في السوق وأكد في حديثه: ان هذه البضاعة تأتي عن طريق تجار يأتون بها من تركيا وألمانيا وايطاليا ومركز توزيعها يكون في منطقة جكوك الواقعة بين منطقة الكاظمية والشعلة وهي مركز التجار الرئيسي لجملة البالة، وأضاف قاسم: فرز البالة يتم تحديده في مستويات حسب نوعيتها وجودتها ودرجة استهلاكها (قطنية، جلدية، ألعاب، صوف، بياضات، ملابس داخلية، وغيرها)، وتتم عملية الفرز في بيوت خاصة بعيدة عن محل العرض والبيع، شريكه في المحل سلام حسين قال : في هذه الفترة نجد أن الإقبال على شراء التلفزيونات المستعملة ذات الشاشات الكبيرة غير مسبوق، خصوصا ذات الماركات العالمية مثل سامسونج، فلبس وباناسونك كون أسعارها زهيدة، وذات جودة عالية .
السوق مزدحم أيام العطل
السوق أو العمارة كانت مزدحمة بالشباب الذين يستهويهم القدوم إليها يومي الجمعة والسبت ويتهافتون على تقليب الملابس "البنطال"الجينز الذي يباع 10 آلاف و5 آلاف، وهو جديد ويقاوم أكثر من الملابس الجديدة في العمل. يقول قصي مازن وهو يحمل "بنطال" انظروا انه ماركة وسعره 7 آلاف دينار وارخص من الملابس الصينية التي لا تقاوم اكثر من شهر وكلها أصباغ ملونة، صديقه احمد علق قائلاً: نعمل عمال بناء ولا نرتدي ملابس للخروج فقط يوم الجمعة وأصدقائي شجعوني على شراء ملابس من هذا السوق لأنها جميلة وجديدة ولا يوجد بها رائحة "اللنكة "وانه يدمن شراء ملابس البالات، لأن غالبيتها مصادرها أوروبية، وصناعتها ذات جودة عالية، إضافة إلى وجود (شعار الماركة) الذي يجعل قطعة الملابس متميزة.
الرأي الطبي
وبعد أن انتهت جولتنا ورغم الإقبال الكبير على أسواق البالات في العراق إلا أن هناك من ينفر منها، ويرى أنها بضائع تحمل الكثير من الأمراض الجلدية ومنها الطبيب مهند عبد الحسن اختصاص جلديه مستشفى الكرخ قال: ننصح بتجنب ارتداء الملابس المستعملة وإذا اضطروا فعليهم أن يغسلوها ويعقموها جيدا قبل ارتدائها وإنها قد تسبب أمراضاً جلدية مثل الصدفية والجذام والكثير من الأمراض غير المعروفة التي تسببها حالة الاحتكاك بين الجسم ونوعية الملابس والخامات المصنوعة منها
وبين أن وزارة الصحة تعلن وباستمرار أن هذه الملابس معظمها تحمل العديد من الأمراض الجلدية ونصحت بعدم شرائها لأنها رغم تطهيرها وتعقيمها تبقى مصدرا للمخاطر الصحية وقد تحسن الوضع المعيشي للفرد العراقي وأصبح باستطاعته شراء الملابس الجديدة فيجب ترك هذه الملابس وعدم شرائها مهما كانت رخيصة الثمن.
العراق الغني يسمح باستيراد الملابس المستعملة وسط تحذير الأطباء
نشر في: 12 أكتوبر, 2012: 05:36 م
جميع التعليقات 1
fourat
Second-level furnitures or cloths is exist everywhere in this world. In UK, for ex le, you can find shops which are specialist in these kind of bushiness. In my opinion, Our problem in Iraq is simply that we are disrespect the law and orders in everything