يؤرخ الكرد لأدبهم الحديث اليوم بما قبل الانتفاضة وما بعدها ، الانتفاضة التي قامت في الشمال والجنوب في العام 1991 ضد نظام الديكتاتور صدام حسين بوصفها نقطة انفصال حادة غيرت مسارات حياة الكرد تماما إلى درجة أصبح معها هذا الحدث الجبار مرحلة لتأريخ الأدب .
الأدب الكردي تغير أيضا بعد هذه المرحلة وظهرت أسماء لم نكن نعرف عنها شيئا في السنوات العشرين الأخيرة ، تكتب بطريقة مختلفة عما كان سائدا قبل هذه المرحلة – لحظة الانفصال أو لحظة الحرية . ليس على صعيد فنون الكتابة حسب ولكن في جميع المجالات الثقافية مثل المسرح والفنون التشكيلية والسينما ، لكن أكثر ما يميز هذا التغير نجده في الشعر الحديث وبالتحديد في تقنية قصيدة النثر شكلا ومضمونا.
من بين الأسماء الشعرية الكثيرة على الساحة الكردية يبرز اليوم اسم الشاعر طيب جبار الذي اصدر عددا من الكتب الشعرية باللغتين الكردية والعربية وكان آخرها ديوانه الجديد الصادر عن دار الغاوون هذا العام "قصائد تلتفت الى الأمام" بترجمة جميلة قام بها عبد الله طاهر البرزنجي الذي درس اللغة العربية في بغداد.
مع أن نصوص هذا الديوان مترجمة إلى العربية لكن القارئ لهذه النصوص لن يشعر انه يقرأ شعرا مترجما، وقد تكون بساطة النصوص ووضوحها سببا في ذلك. في هذا الديوان يقلب طيب جبار الوظائف اللغوية ويعيد توزيعها بطريقته الخاصة كما لو انه يمارس لعبة لغوية يعيد من خلالها إعادة إنتاج المعاني، لكنه لا يكتفي بذلك ، بل يقوم بأنسنة الأشياء التي تبدلت وظيفتها لكي تكون دالة أكثر مما كانت عليه في حالاتها السابقة .
أما اللغة التي تكاد تخلو من البلاغة بإيقاعها البطيء وقصر الجملة فيها فإنها تسعى الى الاقتصاد والابتعاد قدر الإمكان عن الحشو والتمركز حول الفكرة الشعرية التي يمكن ملامستها وتقليبها على مهل. الفكرة الشعرية لدى طيب جبار مبنية على التضاد وتقترب أحيانا من اللعبة السريالية التي لا تخلو من الدعابة كما سيبدو لأول وهلة "لو كنت اعرف / في هذا الربيع / أن ملحمة الاخضرار لا تكتب / لأمرت بحل / المجلس الأعلى للأمطار / لو كنت اعرف / في هذا الصيف أن مساحة الحرارة لا تقاس / لأحلت مدير أشعة الشمس /
الى القضاء " من قصيدة الرباعية الثانية : الفصول الأربعة .
يحيلنا هذا المقطع القصير ربما إلى كتابة الأطفال التي تتحرر من القيود الصارمة في انتاج المعاني والألفاظ والبحث عن دور يمكن ان تلعبه اللغة بوصفها اطارا للفكر والمعرفة . " انا شاهد / كنت بنفسي هناك / في متنزه اشعار المدينة / كانت هناك قصيدة جميلة / ناعمة وفارعة الطول / تشبه فتاة مضللة / اغتالوها / بنقد كاتم الصوت " . هذه الانسنة للأشياء من خلال قلب الأدوار والوظائف والأسماء تمنح النص القدرة على صنع الدهشة التي يصعب ان نجدها في مجمل الشعر الذي يكتب هذه الأيام .
تتغير الموضوعة الشعرية عند الشاعر طيب جبار لكن التقنية تبقى ذاتها ، وهو حتى عندما يعالج موضوعا شعريا شائكا لا يفقد هدوء الطفل الذي يعيد تشكيل الكلمات التي تبدو وكأنها حركت من أماكنها الأصلية فظلت الجملة قلقة لأنها لم تعتد على هذا التشكيل غير المتوازن والقابل للتبديل والإزاحة في أية لحظة " لا اعرف ماذا افعل / كلما بدأنا زرع النسمات / من الطرف الآخر / بدأ البكاء بحفر قناة الدموع / كلما أطلقنا رياح الدبكات / من الطرف الآخر / بدأ النحيب بعقد ندوته / نحن خبراء في جمع وريقات الظلام / لا نعرف إذكاء مواقد الفرح / نتقن أصول التفرقة / ولا نعرف شرب ماء الوحدة / الربيع يأتي وينصرف / ولا أرى زهرة " من قصيدة الأربعاء .
في هذه القصيدة التي تتحدث عن تفتت الشعب الواحد الذي يستبدل الدبكة بالنحيب يشير الشاعر الى قوة الظلام الذي تنطوي عليه النفس البشرية والتي كان بإمكانها بدلا من جمع أوراق الظلام الى ايقاد الفرح في النفوس ، وهي إشارة الى الاقتتال الذي كان يدور بين وقت وآخر بين الكرد قبل الانتفاضة التي وحدتهم من جديد .
لا تخلو نصوص الشاعر طيب جبار من الأسئلة الفلسفية برغم بساطة هذه الأسئلة ، او تبدو انها بسيطة لأنها خالية من البلاغة " هكذا كان / النهار لا يسأل الليل / لماذا أتيت / الليل لا يسأل النهار / لماذا ذهبت " من قصيدة هكذا كان .
طيب جبار يكتب القصيدة الكردية الجديدة
نشر في: 25 ديسمبر, 2012: 08:00 م