فخري كريم
دشّنت ردود الأفعال الغاضبة في المناطق الغربية ضد ما اتُخذ من إجراءات أمنية فظّة بحق وزير المالية بجريرة اتهاماتٍ طاولت مرافقيه،
مرحلة جديدة من الاحتقان الطائفي، والتراشق المتبادل تحت واجهاتها ولافتاتها المستهلكة. ومثل كل المراحل التي شهدت الضرب على وتر الطائفية، تزاحم "الطائفيون" في الجبهات المتقابلة يتسابقون في اشهار لافتاتهم وشعاراتهم ودعاواهم لاتهام " الآخر" وإدانته بـ"الجرم المشهود" المخالف للدستور الذي يُحَرّم كل "فعل طائفي" وخلافه من أبواب التحريض على الفتنة ..!
وكأن خلق الله من "الشيعة" قبل عباده من "السنة" لا يكفيهم ما هم فيه من عذابات الدنيا وسعير جحيمها التي يكتوون بنيرانها كل يوم وعلى مدار ساعاتها المُعَذِبة، لكي يجعل منهم القادة الذين صادروا إرادتهم، بالغصب "المشروع"، وقوداً لمعاركهم ومنازلاتهم، من دون أن يكون لهم في ما يجري باسمهم ناقة ولا جمل.
فالصراع الجاري منذ الولادة القيصرية لحكومة المالكي الثانية، تركز حول مفاهيم حكم الشراكة والتوافق الوطني وتقاسم الأدوار والمواقع بين الفرقاء المتشاركين في العملية السياسية والاستحقاقات التي تفرضها الاتفاقيات المبرمة والعهود والالتزامات التي شكلت بترابطها إطار التوافق على الحكومة ورئيس مجلسها. وبهذا المعنى يمكن القول إن الشيعة والسنة وغيرهما من المكونات، كانوا "الغائب الحاضر" في ما شهدته الاجتماعات حول طاولة ما سمي بمبادرة أربيل. فالمقاعد حول الطاولة كانت "شاهد زور" على حضوره الشيعة والسنة كـ"مكونين" يتلفع بعباءتهما المتحاورون، لكن أطراف الالسن والمخاطبات والمجادلات الساخنة لم تورد لهم معاً، اي ذكرٍ لحقٍ مهضومٍ او التمكين من العيش الإنساني الكريم او الخروج من المآزق التي يواجهونها، كمواطنين ملتاعين في سبل الحياة بكل تصاريفها .
واشهد ان الحوار تناول ما يُشبهُ "الفتنة" ذكر ما يثير قلق الشيعة والسنة، على حدٍ سواء، ويثقل كواهلهم ويقض مضاجعهم (كما ادعى المجتمعون)، ليس في وصف احوالهم ومطالبهم وأمنهم ومستقبل أبنائهم، وليس بصدد إنهاء معاناتهم من غياب الكهرباء أو نقص الماء الصالح للشرب وسائر الخدمات العامة أو استفحال ظاهرتي الفساد والبطالة. لم يرد ذكر الشيعة أو السنة على لسان ملوك الطوائف وأمرائها في مورد له علاقة بالمصالح المباشرة التي تمس الحياة او الموت الرحيم لهم، بل جاء هذا الذكر، كما لو انه شأن مصيري من نوع طائفي بامتياز، وطرح على الطاولة كما لو ان مصائر العراقيين ووحدة وشائجهم وما يتحدد لهم من مستقبل يرتبط بوجهة إقراره!
لقد توقف المتحاورون وقد عاد كل منهم إلى أصوله ومنابعه الدفينة، امام اشكالية منهجي "الدين والتاريخ " وضرورة اعادة كتابتهما ليحوي الدين والتاريخ ملامح ورؤيا كل طائفة ، بدلاً من البحث عن منهجٍ يوحد ويكرس أصول الإيمان ومنابعه! وياليت الإمام جعفر الصادق كان حاضراً لعلّمهم الضلال الذي هم عليه.
واليوم يعود المشهد ليكرر نفسه ويعيد إنتاج مسلسل آخر من مشاهد التزاحم والتراشق بالتكفير المموه عنه، والتجريم المتبادل تحت لافتة "المبتلى بهم" الدستور المنهك. والضحية هذه المرة ايضاً هم جموع الشيعة والسنة الذين يجري تسويقهم بأساليب مبتذلة لاغراض ودوافع هم براء منها، براءة الذئب من دم يوسف .
ليس الشيعة وجموعهم من يتحمل النتائج الكارثية للسياسة المغامرة التي ينتهجها المالكي، وليسوا وراء ما يقوم به من تفكيك للعلاقات بين المكونات السياسية العراقية أو تردي الخدمات او تفاقم الفساد او كل ما يجري في البلاد من تكريسٍ للانفراد او الإقصاء أو قضم الدولة وتدمير مؤسساتها، بل هم من يدفع أولا، باعتبارهم الأكثرية السكانية، فواتير العذاب وشظف العيش والتضييق على الحقوق والحريات. واذا كانت الاغلبية مكرهة على ما هي عليه ومحاصرة بالأكاذيب التي يجري ترويجها وتسويقها لإظهار ما يجري من احتجاج ورغبة متزايدة بتطويق حكم الفرد المنفلت المهووس بالسلطة وامتيازاتها، فان الآخرين يكرسون هذا الذي يروّج وُيسوّقُ، حين يرحلون ما هو سياسي يواجه بوسائل سياسية، إلى بضاعة طائفية بأساليب بالية تثير النقمة والكراهية، ويستفز المشاعر ويثير الضغائن ويوقظ الفتنة .
ان من يرى في تدابير الحكومة استهدافاً للسنة، خلافاً لأشقائهم العراقيين من كل المكونات ، انما يزكي نهج الطغمة الحاكمة التي تستهدف العملية السياسية برمّتها دون استثناء، سواء لمن هم حولها وفي حواشيها. فالسياسة القائمة هي نزوع نحو التسلط والاستبداد، والطاغية والمستبد لا دين له ولا طائفة، بل كرسيٌ مهزوز تعصف به الهواجس وتداعيات الحياة وتقلباتها .
وفي مجرى أحداث هذه الايام لابد ان تتراجع من المشهد رايات الطوائف، وان ارتفعت فإنما من غير أهلها، مجرد واجهات ملفقة مشبوهة الدوافع والمنطلقات، ما يقتضي أقصى درجات اليقظة والانتباه من جانب العراقيين الذين كان لهم وحدهم شرف وأد الفتن والقتل على الهوية والمعازل والكانتونات الطائفية المقيتة.
وفي هذه اللحظات الصعبة التي تمر بها بلادنا لا بد من تقدير مبادرات حكيمة من الطرفين يمكنها تصحيح الأخطاء التي تجري في بيئة الاحتراب والتلاعن الطائفي. وقد اجاد السيد مقتدى الصدر في رسالته إلى المتظاهرين في الأنبار قبل أيام، في وصف المسرح العراقي الراهن، وفي القول بأن الحاكم المستبد يظلم كل الأطراف والمكونات، وهو ما عبر عنه الصدر في موقفه الوطني من أزمة طوزخورماتو، ويكرره بوضوح مع أهل الأنبار اليوم. ان الدعوات التي تنطلق من العقلاء سنة وشيعة، هي المدخل الكبير لإنقاذ العراق من الانزلاق ولتصحيح العملية السياسية.
ومما يستحق التقدير أيضا الاتصالات التي يجريها العقلاء لمنع أي شعارات طائفية من الطرفين كي يتضح أن جميع العراق يعترض على خرق المستبد للديمقراطية والدستور. وقد يسوغ لنا في لحظة أن نتمنى رؤية الكرد والشيعة والسنة وكل مكونات العراق الديمقراطي المفجوع في تظاهرات واحدة تدعو للتوحد من اجل حماية الديمقراطية، كما اجتمعوا من قبل في لقاءات أربيل والنجف التي لم تكن إطارا كرديا ولا شيعيا، بل مثلا الاحتجاج العابر للطوائف، وسيذكر للقاءين إذكاءهما الامل في نفوس العراقيين والوحدة في صفوفهم والسبيل القويم لتأكيد ارادتهم المضيعة بفعل الفرقة والتشتت والتشويش. وسيظل تأثيرهما الايجابي كنموذج للاحتجاج الفعال العابر للطوائف، كما سيذكر له انه أضفى شرارة اخرى على طريق مراجعة الأخطاء.
اما المتدافعون المتنابزون امام الكاميرات والميكروفونات يزبدون ويرعدون باسم الطوائف، فبضاعتهم استُهلكت وإن تداركوا تواريخ نفاذ صلاحيتها، وخيرُهُم من تجرّأَ فكشف المستور من اسباب الفتنة ومصادرها التي تتمدد بفعل الازمات واهدافها المشبوهة.