كانت إيران جائعة حين دخلناها بعد انتفاضة ٩١ هاربين من قصف جيوش علي حسن المجيد، عبر الشلامجة، لا سيارات حديثة ولا جبن كيري او كرافت ولا حليب نيدو وليس لديهم فيديو. لكن ايران كانت أكثر رقيّا منا من زوايا عديدة. اول مرة في الاهواز (او الاحواز)، ارى هاتفا يعمل بشكل طبيعي. اول مرة اشاهد ماء الحنفية وهو يجري بقوة. اول مرة ارى عمالا بسطاء يستخدمون الشوكة والسكين!
لماذا ظل الجار الايراني متفوقا علينا؟ انه سؤال كبير لن اجيب عليه لكنني سأمر على بضع حكايات تشرح ما أنجزته أمريكا في إيران، وما فشلت فيه عندنا بالعراق.
انني اجد نفسي في حيص بيص كلما كتبت عن إيران. بعض الشيعة يتهمونني بأني وهابي معاد لها. وبعض السنة يقولون إنني "صفوي" لكن الكتابة عن إيران غواية كبيرة يصعب علي مقاومتها. وحين امر على جرائد بلاد فارس، مواليةً ومعارضة، أتمنى ان اترجم الى العربية صفحات عديدة من النقاش المؤثر داخل مجتمع حي ونخب سياسية تدير صراعاتها بشكل يستحق المتابعة. لذلك سأظل اكتب عنها مرة أو اثنتين كل أسبوع، مهما بلغ سوء الفهم. منطلقا من تأييدي لأصدقائنا في الحركة الإصلاحية التي يتزعمها رجال ونساء رائعون، هم وجمهورهم جزء أساسي من روح الحداثة في الشرق الأوسط، وسيمنحهم التاريخ لحظة تحرر من الطواقم المتشددة التي تأخذ إيران إلى المجهول والجوع.
أتذكر أن والدي حصل على خط هاتف ارضي عام ٨٩ وعمل لنا حفلة بهذه المناسبة. وحين سألته: لماذا انت سعيد لهذه الدرجة. فأجاب: لقد تقدمت بطلب الحصول على هاتف عام ٧٦ وها انا احصل عيه عام ٨٩. تخيلوا! وبمجرد ان نصبنا الهاتف جاء جارنا وعرض على والدي ألف دينار "تقريبا اكثر من ألف دولار وقتها" لشراء الخط النادر والعظيم. فرفض والدي قائلا: لن ابيعه حتى بثمانية الاف (قيمة سيارتنا البرازيلي فولكس واغن يومذاك). فقد سجل طلبه للحصول على هاتف قبل ان ينجبني ولم يحصل عليه الا حين صار عمري ١٢ عاما.
ولانه كان هاتفا عزيزا فأنني مازلت أحفظه.. ٢١٦٦١٠، لكن المفاجأة كانت ان هذا الخط العظيم لا يشبه الهواتف التي نراها في التلفزيون. سمير غانم في الفيلم يطلب رقما فيرن الهاتف مباشرة في منزل ليلى علوي. لكنني اعجز عن الاتصال بجارنا نوار ابن أم طيف وهم وحدهم لديهم هاتف في شارعنا. وعلي ان اتصل عشرين مرة كي انجح في جعل هاتف ام طيف يرن. اما اذا اردنا الاتصال بصديق الوالد في بغداد فسيتطلب الأمر ثلاث ساعات من المحاولة، وحين نحصل عليه يأتينا الصوت مخرخشا وضعيفا. وحين تمطر السماء تشتبك كل الخطوط، ويمكنك ان ترفع سماعة الهاتف لتجد نفسك تسمع اصوات اربعة اشخاص يتكلمون مع بعض وكل منهم يقول للاخر: هل تسمعني؟ والمفاجأة أنني حين تكلمت سمعوني! كانت مأساة كوميدية حقا، تجعلني آخذ التحية لزين وآسيا وكورك وادفع فاتورتي الباهظة نهاية الشهر "وانا الممنون".
وحين انتقلنا نازحين الى ايران اتيح لي لاول مرة في حياتي ان استخدم "هاتفا مال اوادم" كما اتيح لي ان ارى لاول مرة صنبور ماء فيه ماء "مال اوادم ايضا" وأتذكر كيف كنا نقوم بتشغيل ثلاث مضخات في البصرة كي نحصل على خيط ماء رفيع من الحنفية حتى في "حي الخليج" الراقي.
لم نكن أتينا الى إيران قادمين من مدينة مهمشة او ثانوية، فنحن قادمون من ميناء العراق الرئيسي ومركز صناعته النفطية، ومع ذلك وجدنا فرقا شاسعا في الخدمات الأساسية. أيضا لم تكن إيران مسترخية، فقد وجدناها وهي الخارجة توا من حرب المجانين مع العراق، فقيرة. امي تسأل البائع الايراني: هل لديك حليب نيدو، (الذي كان متاحا لدى اي دكان عراقي)، فيجيب: كلا فهو لا يباع الا في بضعة متاجر في احياء الاغنياء. هل لديكم "جبن مثلثات"؟ كلا. كرافت؟ كلا؟ هل يمكنكم اصلاح عطل سيارتنا البرازيلي العادية والرخيصة؟ كلا، فآخر فولكس واغن دخلت طهران موديلها ٧٨، ولاتوجد قطع غيار للموديل الحديث.
كنا افضل منهم على مستوى السلع الاستهلاكية، وكانوا افضل منا على مستوى البنية التحتية. لماذا؟ لان حليف امريكا محمد رضا شاه المخلوع، ترك لاية الله الخميني تنمية عمرانية وبشرية هائلة حققها بمساعدة واشنطن. والشاه نجح في مد شبكات هاتف ومياه اسالة وشوارع واسعة الا انه لم يكن مسؤولا عن اختفاء حليب النيدو من الاسواق عام ٩١.
سأكمل غدا عبر هذا المدخل، الحديث عن معنى امريكا في ايران، ومعناها في العراق، لاحاول تأمل مستقبل القيادات "الشيعية" في اخطر لحظات الشرق الاوسط. وكم منهم نقص عقله و"ابتلت" به طائفته الكريمة، لاتساءل اخيرا في المقال القادم: لماذا ارتفع صوت التشدد وانزوى عقلاء الطوائف وصرنا وسط كل هذه "الحروب المقدسة"؟
معنى أميركا في العراق وإيران (١-٢)
[post-views]
نشر في: 25 ديسمبر, 2012: 08:00 م
جميع التعليقات 6
بدر
حين جاءت امريكا الى ايران استفاد منها الشاه حين نقل بلده من بلد متخلف الى بلد من ارقى بلدان الشرق الاوسط عمران وطرق .....وغيرها، وارسل البعثات من الطلبة والعمال لكي يتعلموا. واثمرت عن بنية تحتية صمدت اكثر من 40 سنه بعد سقوط النظام الذي شيدها. وحين جاءت ام
sadq
شكرا على هذا المقال الرائع تلفونات قبل هي بس اتخرخش فديوم اريداتصل الى بغداد تطلع هلاهل تحياتي استاذ سرمد
أبو فهد
الاستاذ سرم الطائي المحترم رفقا بالمواطنين الكرام و القراء الاعزاء في نقل المعلومات وليكن النقل بدقه و موضوعيه أكثر خاصة فيما يخص موضوع الهواتف ليس دفاعا عن منظومة الاتصالات في السبعينات و الثمانينات و لكن كيف يعقل ان يقدم الانسان على هاتف سنة 76 و يحصل
sadq
شكرا على هذا المقال الرائع تلفونات قبل هي بس اتخرخش فديوم اريداتصل الى بغداد تطلع هلاهل تحياتي استاذ سرمد
أبو فهد
الاستاذ سرم الطائي المحترم رفقا بالمواطنين الكرام و القراء الاعزاء في نقل المعلومات وليكن النقل بدقه و موضوعيه أكثر خاصة فيما يخص موضوع الهواتف ليس دفاعا عن منظومة الاتصالات في السبعينات و الثمانينات و لكن كيف يعقل ان يقدم الانسان على هاتف سنة 76 و يحصل
وميض الربيعي
شعب ناكر للجميل محب للذبح انى له ان يستفيد من اعظم خير في البشرية