ليث عبد الكريم الربيعيتسعى السينما بين الفينة والأخرى، للإلمام بحقبات التاريخ المتناثر الأشلاء بين طيات الكتب وحكايات الآباء والأجداد، لتعيد رسم صورة ما عن أساطير وأحداث وأمم كانت تعتمر الأرض ذات يوم وخلفت لنا الحضارة والسمو تارة والحروب والموت تارات أخرى، وبذلك تصبح السينما بديلا صوريا عن ذلك التاريخ السردي العظيم بقصصه وحكاياته وأمجاده ومخازيه، وهو عبء آخر يتحمله الفيلم ليري الناس تصورات وانطباعات صانعيه عن تلك القصص والحكايات.
لكن ما يعاب في هذا الإطار أن تحمّل الحقائق ما لا تحتمل، وان يساق الحدث نحو مأرب ونوايا دفينة، تتجه مع من يملك القدرة لإنتاج حكاياته مضفيا عليها مزيدا من البطولة والإيثار، وعلى الآخر أن يتحمل تلك العداوة والكراهية المنبعثة نتيجة تصارع الإرادات والنزوع نحو وصم الآخرين بسمات لا تمت للحقيقة بصلة.لاشك في أن السينما الأمريكية تتفوق أكثر من غيرها في تجسيد تلك الحكايات، بما تمتلكه من أدوات تقنية وحرفية ومهارة في صياغة وخلق الأحداث الدرامية والشخصيات البطولية الأقرب إلى ما عهدناه من مواريث حضارية سحيقة، وهي لا تفتأ في إتحافنا بين فترة وأخرى، بأحد الأفلام المشغولة بعناية وإتقان تعكس فيها تجذر الإبداع لدى أجيالها ولاحقيهم من صناع السينما، وهي الأقدر وآلامكن على إشغال هذا الفراغ السينمائي الصعب بالنظر إلى ما يحتاجه من إمكانات مالية وبشرية هائلة.في المقابل قد لا نتفق مع ما تأتي به هذه المعالجات التاريخية لبعض الأحداث والتي تعتبر في عداد المسلمات اليقينية، بل نعتقد أن هناك كثيراً من التجني على حقائق ودقائق التاريخ، وبذلك لا يمكن أن نركن إلى الدراما المقدمة إلا من ناحية إنها دراما ولا تمثل شاهدا على عصور خلت، وهذا ما يجنح إليه الفيلم الأمريكي- البريطاني المشترك (النسر The Eagle: 2011) في إضفاء مسحة من التسامح الأسطوري لدى أبطاله من المحاربين الرومان الدمويين، وحرصهم في المقابل على استعادة (النسر) رمز شرفهم الذي فقد في احدى المعارك قبل 20 عاما بعد أن اختفى الفيلق التاسع بكامله -المتوجه لتحرير بريطانيا- في جبال اسكتلندا.إننا في عام 140 قبل الميلاد، يرسل القائد الروماني الشاب (ماركوس أكيلا) إلى معسكر بالقرب من بريطانيا بعد 20 عاما من اختفاء الفيلق التاسع والذي يقوده والده، واول ما يقوم به (ماركوس) صد هجوم على معسكره من قبل بعض محاربي البراري، إلا انه يصاب بجروح بليغة ويحال على إثرها الى التسريح المشرف. إلا أن ذكريات بطولات والده لا تزال عالقة في ذهنه، ومن اجل ذلك يقرر الذهاب في رحلة لاستكناه لغز غياب الفيلق برمته و(النسر)، ويأخذ معه عبده البريطاني (أسكا). يتوجه الاثنان نحو الشمال ويعبران (حائطِ أدريان) نحو المرتفعاتِ المجهولةِ لكاليدونيا وفي طريقهم يلتقون بأحد رجال الفيلق المفقود الذي اضطر للهرب من فتك قبائل تدعى (الفقمات)، ويبلغه إن (أسكا) يعرف مكانهم كون قبيلته (البرغنتيين) كانت تحارب إلى جانبهم، وينشب قتال بين (ماركوس) و(أسكا) بعدما يعتقد انه مخدوع به، وأثناء ذلك يلقي رجال (الفقمات) القبض على الاثنين ويبلغهم (أسكا) إن (ماركوس) عبده، ولكونه رومانياً ينال اشد أنواع التعذيب والتنكيل، وإثناء احتفال رجال القبيلة ليلا يرى (ماركوس) النسر الذهبي محمولا بيد احد رجالهم، ويقوم (أسكا) بمساعدة (ماركوس) في سرقته والعودة به إلى روما.في طريق العودة يعاني (ماركوس) من جراحه القديمة فيستعين (أسكا) بذات الرجل الذي هرب في السابق ومن معه من ارض المعركة، ويلاقون رجال (الفقمات) في محاولة لاستعادة أمجاد روما.اخرج الفيلم المخرج البريطاني (كيفن ماكدونالد 43 سنة) مقدم سابقا (حالة اللعبة: 2009) و(عدو عدوي: 2007) و(آخر ملوك اسكتلندا: 2006) و(لمس الفراغ: 2003) والذي أصبح يتمتع بالتخصص في الأفلام التاريخية، ونلمس في فيلم (النسر) نضوجا كبيرا لديه، من حيث إدارة ممثليه والإمساك بسيل الأحداث وتتابعية المشاهد، إلا أن هناك ترهلا كبيرا لدرجة أن المخرج يقع في حيرة من أمره في طريقة معالجته، فعندما تطارد القبائل المتوحشة (ماركوس) تظل العملية رتيبة وليس فيها أي إثارة مطلقا، فضلا عن فارق التوقيت بينهما، إذ يستخدم (ماركوس) و(أسكا) جوادين في الهرب، بينما رجال القبيلة ليس لديهم إلا أرجلهم، وحتى يشغل هذا الفراغ الزمني يحتال المخرج على مشاهديه في طريقة اختزال زمن اللقطات والمشاهد حتى يوصل الاثنين إلى مكان المعركة التاريخية القديمة، وهذا عيب ملحوظ في السيناريو، لا يتم تجاوزه إلا بفضل اللمحات الكثيرة التي افلح المخرج في استخدامها كالمؤثرات الصورية والصوتية واختيار زوايا التصوير وحركات الكاميرا وغيرها، فقد بدا الفيلم في حلته النهائية ممتعا بصريا فقط، دون أي مزايا أخرى، والفضل يعود في الأخير إلى مخرجه.أدى الأدوار الرئيسة في الفيلم (تشايننغ تاتوم) بدور (ماركوس) والذي ظهر في أفلام (عدو الشعب: 2009) و(العزيز جون: 2010) وغيرها، والى جانبه (جيمي بيل) بدور (اسكا) الذي أدى دور البطولة في فيلم المخرج (ستيفن دالدري) (بيلي اليوت: 2000)، وفيلم (حرس الموت: 2002) و(العزيز ويندي: 2005) و(رايات آبائِنا: 2006).. وغيرها، وبمشاركة النجم الكبير (دونالد سوذرلاند)، فضلا عن ظهور ثان للنجم الجزائري الأصل (طاهر رحيم) الذي برز في فيلم (نبي: 2009).الفيلم بغض النظر عن مضامينه مشغول بعناية، وممتع شكليا، لكن لا يمكن مضاها
الرومان يبحثون عن رمز شرفهم المفقود..(النسر) الشكل على حساب المضامين

نشر في: 27 يوليو, 2011: 05:54 م