عمار طلال بعد سقوط الطاغية صدام حسين، لم نكتشف سريعا أن الطغيان في العراق يسكن في التفاصيل، وهو، على الأقل، يتحول قيمة حياتية شاذة. وخيل للعراقيين أن الطغيان، متمثلا بصدام كنموذج استثنائي في المنطقة، ينحصر في صور وهالات وحيوات بعيدة، أو قريبة عن الأنظار. ربما كانت بزته العسكرية وكاريزما القائد الأوحد. وربما تلك القصور والحاشية وجموع المصفقين – الخائفين. صدام كان في كل مكان، راسخا كثقافة ممسوخة.
مخالب الطغيان تنوعت وتناسلت أمثلة وتجارب على طول في الجمهورية العراقية الحديثة التي لملمناها من تحت سرف الدبابات، وعرابي الانقلابات، والارتزاق بحوادث ووقائع التغيير، واخبرا خناجر الحواسم الذين انفلتوا يوم 9 نيسان 2003 من داخل العراق واقبل معهم بعض شذاذ الآفاق، يلهثون وراء فاتورة ندفعها لهم شئنا أم أبينا، فضلا عن أدعياء الدين والدنيا مع الذين احتلوا حياتنا وطغوا فيها باسم الدستور والشريعة وما تبقى من أزلام صدام.. صيادو الفرص في كل زمان ومكان الذين يتنكرون لمواقف موالاة صريحة مع صدام يصنعون لأنفسهم تاريخا معارضا ينطلقون به من انتمائهم التام لنظام صدام حتى أن احدهم وضع سلما موسيقيا ساذجا اسماه (سلم صدام) حاول ليّ ذراع دائرة الفنون الموسيقية لإقراره كبراءة اختراع ليس لأنه فتح في الموسيقى إنما لأنه يحمل اسم (القائد العظيم) ،ولما اعترضت الدائرة اشتكاها إلى عبد حمود سكرتير صدام حسين وقد حملت الشكوى ما نصه "انهم لا يحترمون كون الاختراع يحمل اسم القائد صدام حسين" فكان حمود بكل طغيان ارحم من هذا الموسيقي بزملائه فأحال الأمر إلى دائرة الفنون الموسيقية مرة أخرى فشكلوا لجنة أخرى من أعضاء آخرين أيدت ما توصلت إليه اللجنة الأولى من أن هذه السذاجة تحاول ليّ ذراع العلمية لتمرير سذاجتها باسم صدام حسين.شخصيا، عشت تلك التفاصيل واطلعت على كل هذه المخاطبات جاءني هذا المخترع يدعي أمامي بان النظام السابق كان يحاربه ويهمشه بأمر من صدام حسين وعبر سكرتيره عبد حمود إلى دائرة الفنون الموسيقية في وزارة الثقافة بدليل تنكرها لسلم موسيقي اخترعه، وهو يعلم بأنني قريب من الأحداث.. مطلع على التفاصيل، فماذا يدعي أمام البعيدين.. غير المطلعين؟!لا حدود بين هذه الكيانات.. الفردي منها والجماعي على حد سواء.. إلا ما يشكله التعايش النفعي عبر التواطؤ على مصالح بعضهم البعض، تفاهما في ما بينهما، وإذا غاب التفهم الضمني نقلوا خلافاتهم إلى الشارع وظلوا هم في منأى من تبعاتها التي يديرونها من مقرات الأحزاب ومجلس النواب إلى الشارع المسكين.. لا حول ولا قوة.. عهد ذاك وهذا العهد.أناس لا يقلون سوءا عمن سبقهم التحقوا بصدام في ظلمنا بعد أن كنا نعتقد أن مشكلتنا تنتهي بنهاية صدام وإذا بها تبدأ بنهايته لأن أبواب الطغيان مفتوحة في العراق منذ ما قبل حمورابي ونبوخذ نصر مرورا بهما وبكل ما تلاهما إلى ما بعد صدام حسين.انتشر الطغاة الجدد في ميادين الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية كالنار في الهشيم، آخذين إشكالا أميبية مدروسة مع الميدان الذي ينفذون إليه، فالفساد فن غاية في التنظيم. وهناك الذي يحمل بكلوريوس قانون وهو راسب في الإعدادية التي سحب أوراق رسوبه منها بالقوة ومحا أي اثر له فيها واستصدر شهادة نجاح في السادس الإعدادي ثبتها في وزارة التربية حسب ما يدعي ومثلها مراحل نجاح متلاحقة في كلية يعمل بموجبها الآن في مهنة مفصلية تؤثر في حياة الناس.هذا على مستوى الحياة اليومية، أما ما كان أوسع من ذلك فيتمثل بمن حلوا مدراء عامين ومفتشين عموميين ووزراء باختصاصات لا يمتون لها بصلة.كان القائد المهووس بذاته يكتفي برصد الأشياء من بعيد لمجده مكتفيا بكون المنجز الفلاني تحقق في عهده مع شيء من هذا الإيحاء يبديه صاحب المنجز كي يأخذ حريته في التعاطي مع منجزاته لخدمة البلاد والعباد وبالذات إذا ما لم يسع لاستحصال مكرمة من صدام نظير هذا المنجز ويحصل عليها، فان شاء عرضه في معرض (هدايا السيد الرئيس) الذي يطلع عليه صدام شهريا أو رفعه عن طريق مكتب السكرتير حمود فتجيئه المكرمة المجزية التي يقدرها صدام شخصيا.الآن صارت المحاججة باسم الطائفية كي يحققوا موطئ قدم في الدنيا، وكونه ينتمي الى احدى الجهات ينال موقعا لا يعرف منه سوى كونه سبيلا للسرقة في ميدان يحتاج الى علماني تكنوقراط، إلا انهم يديرون الدولة بمنطق "اهجهم وروح القدس ترعاك".كان ذاك يترك أحلامنا لنا لأنه غير معني بها وهؤلاء يداهمون حتى الأحلام توطيدا لهشاشة داخل أرواحهم تحثهم على ضعضعة الآخرين كي يبدوا متماسكين.وكلما تكلم واحد منهم ادعى انه موهبة صارخة في الشعر والقصة والمسرح والتشكيل إلا أن النظام أراده يمجد الطاغية فرفض، ولو فتح أدراج الجرائد والمجلات ومكاتب فاحصي النصوص المسرحية واللوحات التشكيلية لوجدها تكتظ بأعمال في القصة والشعر والمسرح والتشكيل تمجد القائد لكنها رفضت لضعف مستواها الذي حال دون نشرها في الجريدة أو عرضها على المسرح أو زجها في معارض الحزب.لو اطلعت عليه اليوم لقال لك إن النظام السابق يهمشني لأنني لم أكن موالياً له، بينما هو موال وأكثر ولاء من الموالين!
الطاغية يتناسل
نشر في: 29 يوليو, 2011: 05:29 م