شاكر لعيبيكان بول فاليري يقول: "خطران يهددان العالم: النظام والفوضي". وكان يستهدف بذلك، حسب قراءتي، أن الصرامة في إقامة نظام ثابت جاهز لتنظيم الحياة لا يأخذ فردية الكائن الفرد وطلاقته بعين الاعتبار، سيقود إلى خطر قمع حريته ورغباته وإرادته. وقد رأينا ذلك في جميع الأنظمة الشمولية في العالم، وفي منطقتنا. أما الفوضى فهي تقدّم الانفلات المطلق من كل قيد باسم الحرية، وهذا خطر آخر لأنه يشكل الوجه الآخر من ذلك النظام القامع، ذلك أنها ستسحق الآخر سحقا. إن توازناً خلاقاً بين النظام والفوضى بالمعنى الموصوف لا يبدو مهمة سهلة في شروط لم تتمرّن على الحرية ولا على قبول الآخر. ويقدم العالم العربي اليوم بعد "ثوراته" خير برهان على ذلك.
بين الفوضى والنظام يتحرك الأدب العربي أيضاً. فإن مفهوم الحداثة ملتبس في الثقافة العربية لأنه مختلط ومخلوط بمفهوم التحديث. الحداثة كما أراها مفهوم ثقافي: قطع مع وعي الماضي، مع الماضوية إذا صح التعبير في مستويات وعيها وتجلياتها وحقول عملها كلها. أما التحديث فهو قضية تقنية شكلانية. استجلاب التقنية الحديثة لا يشكّل انهماكاً بالحداثة. يمكن أن تستخدم الكومبيوتر وتظل تقرأ عليه المعوّذات، أو تشتري سيارة حديثة وتطلي زجاجها باللون الأسود لكي لا يرى أحدٌ نساءك داخلها. الفرق بينهما مثل الفارق بين (النمو) و(التنمية). الأول مفهوم حسابي اقتصادي والثاني مفهوم شامل اجتماعي وثقافي واقتصادي. كانت تونس تحقق في زمن بن علي معدلات نمو متسارعة حسب الأرقام لكن من دون تنمية حقيقية، فقد استبعدت شرائح ومناطق تونسية واسعة من عائدات النمو تلك. في الشعر العربي المعاصر ثمة تشبث نظري ملح بمفردة الحداثة دون أساس مفهومي راسخ لها، وظلت وما زالت تعتبر التحديث حداثة. المشكلة الأخرى أن ثقافتنا الجديدة نشأت منذ البدء (حديثة)، خاصة في فن التصوير الذي يصلح أن يكون مثالاً على الإشكالية برمتها، فهي لم تقطع الشوط الذي مر به التصوير الأوربي منذ عصر النهضة للوصول إلى الحداثة. عربياً يُستخدم المفهوم بكثير من الالتباس، لأن قطيعة فعلية مع أفكار الماضي لم تتم على كل صعيد وعاشت الثقافة العربية نوعا من التلفيقية: تستبعد هذا الأمر وتتقبل ذاك حسب ملاءمته لشروط أو بعض شروط الماضوية الموصوفة. الحداثة الشعرية مختلطة الآن بفكرة الدرجة والموضة والصرعات الأدبية والشعرية، وعلى سبيل المثال هناك الكثير من الأصوات التي تنادي بقصيدة النثر وحدها عنوانا للحداثة. لا أستطيع أن أرى في الكثير منها إيمانا فعلياً بالحديث الراديكالي، المفهومي لأني أراها على الصعد الأخرى في حياتها اليومية والاجتماعية والأخلاقية والدينية على مسافة مهمة من ذلك القطع المأمول. أضف إلى ذلك أن الإيمان القاطع، البات الجازم بأحقية حضور شكل واحد وحيد من قصيدة النثر استناداً إلى كتاب سوزان برنار يتنافى عضوياً مع مفهوم الحداثة القائم على التبدّل والتحوير والتجريب المستمر وعدم الثبات على نمط واحد. إيمانهم يشكل نقيضاً للحداثة لأنهم يقيمون من جديد قواعد نهائية صارمة لفن الشعر.يبدو لي التفريق بين "الماضي" و"الماضوية" جذرياً على صعيدي الأدب والفكر. فالماضي يتعلق بالإرث الثقافي العربي والعالمي الذي يستلزم التعرّف عليه، وهضمه، ليصير عنصرا مكوناً من أدب وشعر وفكر معاصرين. الماضي خلفية لسيرورة تصاعدية خطية نظرياً لكن عمودية أفقية في واقع الحال. المستقبل سيصير ماضياً، والحاضر الشعري يستند في بعض عناصره إلى ماضي الشعر العربي.أما "الماضوية" فهي التشبُّث بـ "قيم الماضي" التي عفا عليها الزمن، والثبات بأخلاقه، والاعتقاد أن أنماطه الجمالية والشكلية هي الجديرة وحدها بالحضور. والظن أن الشعر التقليدي هو الشعر الوحيد اللائق بالتذوّق والإنشاد. هنا مفهوم جامد للماضي. الحاضر نفسه في هذه الحالة غير موجود مبدئياً لأنه محض تقليد للماضي والمستقبل سيكون موجودا بصفته اجترارا لما سبق. الماضوية تضرب بأطنابها في العالم العربي، وبثقل ثقيل.
تلويحة المدى: الماضي و"الماضوية"
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 29 يوليو, 2011: 08:37 م