اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > الملحمة من التاريخ إلى المعنى

الملحمة من التاريخ إلى المعنى

نشر في: 30 يوليو, 2011: 06:14 م

2-2ياسين طه حافظفي الملاحم التي تلتْ هذه الملحمة، تتعدد الشخوص إلى جانب الأبطال الرئيسيين. وهنا ينبغي الاهتمام بهم جميعاً وبأقوالهم وحركاتهم. فليس صواباً الاهتمام بالشخوص الرئيسيين في الملحمة وإهمال الآخرين بدعوى اللا أهمية. هم أبطال شعبيون، كل يحمل صفة أو مطمحاً أو حاجة شعبية مضمرة أو في عمله أو كلامه إشارة لحالٍ ونزوعٍ اجتماعيين.
مثل هذه القراءة الواسعة تطلق النص من محدوديته وتبعده عن الفهم الآني العَجِل. في تفحص الملحمة جيداً نلمح إشارات تأتينا من أعماق الزمن ومن أعماق مجتمعات قديمة وأنظمة: ولذلك تظل ملحمة جلجامش أكثـر أهمية فنية لكن فيها الكثير من الغموض، بسبب قلة الشخوص من ثم قلة التفاصيل. من ناحية أخرى هي الأكثـر أهمية واغنى محتوى و أبعد أفقأ فكرياً من كل المقطوعات الشعرية التي حملتها الرُقُم العراقية المكتشفة.يرى الاستاذ بندتو كروس Bendetto Cross أننا لا نستطيع معرفة أي شيء حتى نعطيه اسماً، ذلك الاسم يعطيه شكلاً في أذهاننا. وهذا التشكيل أو التسمية، هو فن إبداعي أساساً. تلميذه الفيلسوف والمؤرخ كولنجوود Collingwood، يقول: إن الحقيقة التاريخية تمتلك معنى بالنسبة لنا قدر ما نعيد التفكير بما وراءها. فالمؤرخ بالنسبة لكولنجوود "عليه أن يصنع فناً إبداعيا في عقله أولا ونتيجة لذلك سيكون ارتباطه بالحقيقة على قدر فهمه لها"( ).في هذا الكلام مدخل للقراءة ومدخل لفهم الحقيقة التاريخية عبر الواقعة المروية أو المكتوبة بشكل أدبي. الصياغة الأدبية في الحالين تحجب الحقيقة التاريخية بالصياغة الفنية وبحسب كولنجوود، كانت هناك حركتان إبداعيتان: فعل إبداعي أول لتصور الموضوع تلاه فعل إبداعي ثان للتواصل. هما عمليتان منفصلتان، الفن حاضر في كل منهما. خلاصة الكلام إننا بإزاء: 1-واقعة تاريخية2-ابتداع فكرة مرتبطة بها.3-رسم شكل وصيغة للتعبير عنها.rnولاخلاف على هذا الافتراض بالنسبة لأي كاتب يتعامل مع الوقائع أو الحقائق، سواء تبنى حدثاً تاريخياً أو حدثاً معاصراً، أو صراعاً. وكما يحدث هذا للملحمي، يحدث للروائي الذي تشغله المادة ولا نتحدث هنا عن الكتاّب ذوي القدرة التخيلية العالية مثل مبتدعي الحكايا والكتاب الرومانسيين، فأولاء يُروننا الحياة بنقلها إلى جو آخر..لكن الروائي الذي يقدم الحياة ويصور الصراع أو المواجهة، هو كما المؤرخ، ما "يبتدعه" يتصل بالحقيقة. وسواء في الرواية أو في الملحمة، يوظف المؤلف عنايته الأدبية لاستخلاص المعنى وتصويره. سواء ظل في الكتابة ضمن التقليد أو ابتدع شكلاً جديداً يميزه.إذن العمل الملحمي، إذا فكرنا بهذا الاتجاه، هو منح معنى للحدث المرئي أو المروي ونقله بما يجعله حياً في الزمان (الجديد). وهو بهذا مشابه لأي عمل فني في الرواية والشعر والرسم مع فارق الحقيقة أو الواقعة التاريخية. ولعل الفرق بين الملحمي والروائي من جهة وبين المؤرخ، هو أن الأولين حرّان في تبني أية حادثة أو ثيمة وإضفاء الحياة، التي يصنعها فن الكتابة، عليها. معنى هذا إن ثنائية الأسلوب والشكل، التي يقول بها "كروس"، لازمة للروائي والملحمي والمؤرخ. لكن الثيمة (المعينة) غير مُلزمة للأولين فهما أكثر حرية من المؤرخ في اختيار الحدث، أما الشكل فهو لازم للجميع والقول بان الكتاب التاريخي، كتاب المؤرخ، لا يحتاج إلى شكل، قول مرفوض لان الكتاب سيفقد: أولا صفتهُ الفنية وثانياً، كونه كتاب تاريخ، سيفقد صفة التاريخية. ذلك لأنه سيتحول إلى كتلوج أخبار وأحداث ومبان قديمة مهدومة أو جرى إصلاحها.واستنتاجاً مما سبق، يهتم تأليف الملحمة بمسألتين، الأولى أهمية الموضوع الفلسفية أو أهميته القومية- في الملاحم بعد القديمة، ويهتم بالموضوعات الإنسانية في الملاحم الحديثة. والمسألة الثانية هي فن كتابة ذلك الموضوع وإيصاله. أي أن "فن الأدب" يتناول الموضوع مضموناً، سواء بالحفاظ على توجهاته الفكرية أو بإعادة توجيهه دلالياً وفلسفياً. وأحد وجوه عظمة العمل هو توجيهه لما يريد الكاتب كشفه من مضامين عصره الجديدة حقائق وأفكارا. وتمكنه من إيجاد شكل جديد متفوق وخارج التقليد ميزة أخرى له. فلا يعود العمل سرد حدث أو واقعة أو تصوير موضوع أو ظرف. العمل من غير رؤية جديدة ومن غير كشف جوانب أخرى، عمل محترف متمرس لا عمل فنان مبدع.لا تمتلك الكتابة امتيازها لكونها ممتعة أو درامية حسب. ولاتمنحها هذا الامتياز جماليتها الأسلوبية. هذه كلها ومعها آفاق الموضوع المتعددة ولا محدودية المغزى. فما أن يضيق المغزى حتى تفقد الكتابة صفة الفن العظيم. والملاحم التي ما تزال حتى اليوم نحترمها هي ملاحم تتوفر على تلك الصفات. وإلا ما اكتسبت عمراً واحتراماً. أما السرد وحده نثراً أو نظماً، فيمكن أن يكون عمل أي من الناس الكتبة أو النظّامين رواة الحكايا ولا تشترط هكذا كتابة عقل مبدع لفنان. وتعقيباً على هذا، ثمة من يقول بلا ضرورة الاهتمام بقصة شعرية أو حكاية رمزية. لكن هذه الحكاية الرمزية هي المحارة التي انبثقت منها الحياة ،وأمثال هذه القصص والحكايا منحتنا ملاحم من مفاخر الأدب، وعلى قدمها، هي في حال جيد. سرّ ذلك هو عظمة الفن الذي أبدعها. وهذا ما يجب الاهتمام به.أما عن طول العمل الملحمي، فإن عملاً متوسط الحجم يمكن أن يكون مقبولاً في رأي بع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram