عبد الخالق كيطان شيخ لم يعد يرى غير خيالاته على جدران القصر، وعلى وجه ماء البحيرة، فصار يشك بزواره كلهم. لم يدخل زائر إليه إلا وخرج جثة يحملها الحراس على رؤوسهم. أصدقاؤه الخلّص يرتجفون أمامه، يدركون أن مصيرهم قد ارتبط بمصير شيخهم. ليس من الحكمة في شيء الهرب بعيداً لأن يد الشيخ ستطالهم على أي حال.
ومر عام وآخر، وصارت المشيخة تتهالك بسبب خيالات الشيخ الطاغي. عمّ الجوع والفوضى في أنحاء المشيخة، كثر المتسولون واللصوص، وانتشرت بيوت الدعارة. كثيرون لجأوا إلى عوالم الغيب كي يحتموا من قسوة الحاضر اللعين. ازدهرت تجارة المنجمين وقارئات الفناجين. والشيخ في قصره المنيف يزداد وزنه بصورة مخيفة حتى صار أقرب إلى المسخ. مرت عليه أيام عصيبة ذلك أنه غير قادر على الخروج من غرفته. نادى حارسه الأمين على البنائين حتى يقوموا بتغيير حجم أبواب القصر لتصبح واسعة أكثر فتسهل حركة الشيخ. صارت أبواب القصر أكبر من بوابات القلاع. والشيخ يزداد حجمه ليصبح مثل فيل وأكبر، صار غولاً.. شيئاً عصياً على الوصف.في المشيخة لا حديث غير الحديث عن شيخهم المطاع. ثلة من الغاضبين حاولوا مراراً الإطاحة بالشيخ، ولكنهم كانوا يفشلون على الدوام، فيلقى عليهم القبض وتطعم أجسادهم للنمور والأسود. ولكن حدثاً جللاً غيّر مجرى الأمور. لقد ضاق القصر على الشيخ، فحجمه ووزنه يكبران يوماً بعد يوم. حاول البناؤون أن يفعلوا شيئاً. صرخ الحارس الأمين بوجوههم وهو يرى الشيخ يحبس داخل جدران القصر. أطراف الشيخ تخرج من هنا وهناك ولا أحد يستطيع عمل شيء سوى الفرجة. كلهم بدأوا يتفرجون عليه. فيهم من يتشفى وفيهم من يثأر وفيهم من يخاف وفيهم من سعد بما بدا أنه نهاية لهذه القصة المأساوية. لم يطل الأمر. بدأ الشيخ يرى جسده أمام عينيه وهو يتفسخ بسرعة. ماذا يفعل الحراس والأصدقاء؟ كثير منهم هرب أخيراً، وآخرون لم يصدقوا ما رأوا فظلوا في مكانهم دون أن يتوقعوا غضب أبناء المشيخة الذين قرروا التخلي عن عاداتهم الموروثة في الخوف من الشيخ بعد أن رأوا جسده الضخم يتفسخ، فأسرعوا إلى حراسه وصحبهم وأوسعوهم قتلاً وسحلاً. خرج الغضب أخيراً من النفوس. ولم يجد جماعة الغاضبين فرصة أفضل من هذه للانقضاض على المشيخة فنصبوا لأنفسهم مشيخة جديدة على مرأى ومسمع من الشيخ الذي يصارع الموت فيما جسده يكبر ويتفسخ ويملأ الأركان عفونة ورائحة لا تخطؤها الأنوف.هتف الناس في كل مكان للنهاية التي لاحت. لقد أخذ الجلادون نصيبهم من العذاب، فيا لها من نهاية سعيدة! وها هم أبناء المشيخة الذين تحرروا من مخاوفهم وهواجسهم يبدأون المشاورات لتشكيل حكومة بعيدة تماماً عن نظام المشيخة الذي سنّه الرجل الذي تتقطع أوصاله الآن. ولقد تشكلت تلك الحكومة أخيراً.. وعمّ الهرج والمرج في أنحاء المشيخة. كان الجميع قد أكل من الأرض ذاتها. كان الجميع قد أيقن أن فرص ولادة شيخ جديد باتت مؤاتية ذلك أن الأمر لا يتطلب كثير جهد. وبلمح البصر، قرر كل فرد في جماعة الغاضبين أن يكون الشيخ القادم. كثر اللغط بينهم. وصار القتل شعاراً في المشيخة. لم يكد يمر يوم دون أن ترى في الشوارع جثة هناك وقتيلاً هنا. جاء يوم على أبناء المشيخة يتحسرون فيه على شيخهم اللعين، ذلك الذي أذاقهم مرّ العذاب، وكان نشيدهم المكرر يقول: كان عادلاً في ظلمه على الأقل!
عين:شيخ ومشيخة
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 30 يوليو, 2011: 08:43 م