TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > منطقة محررة :همنغواي الذي خاف من ورقة فارغة

منطقة محررة :همنغواي الذي خاف من ورقة فارغة

نشر في: 2 أغسطس, 2011: 09:33 م

 نجم والي 2-2 ليس من الغريب إذن، أن تدق ساعة الحقيقة بالنسبة إليه في "رامبولية" عند العاصمة باريس، حيث خلع عنه الشارة التي  تعلن بأنه صحفي، وزود نفسه بدل ذلك بهوية عسكرية، وسلح نفسه حتى الأسنان، بعد جمع مجموعة من مقاتلي المقاومة الفرنسيين حوله، لكي يقاتلوا ضد القوات الألمانية التي بدأت بالانسحاب من ساحة المعركة (لذلك قُدم همنغواي للمحكمة، بسبب خرقه القوانين؛ تلك الجرأة حسدها عليه زملاؤه).
في تلك الأيام أيضاً كان همنغواي يشعر مرة أخرى بعدم الراحة، وبأنه لم يكن سعيداً. كان عليه أن يدخل في مفاوضات الانفصال عن زوجته الثالثة "مارتا غيلهورن"، وأن يبدأ بالعيش مع زوجته الجديدة، الرابعة، كانت تلك الفترة بالذات التي بدأ يعاني فيها بصورة واضحة من مرض العجز الجنسي، ومنذ أسابيع قليلة. جروحه المتتالية راحت تؤلمه بشكل إضافي. أما صديقه، الجنرال "لانهام"، فقد بعث له رسالة من غابة "هورتين" يهدده فيها، بأنه سيطرد الألمان خلف الخطوط الخلفية دونه، دون كاتب التحقيقات. همنغواي الذي كان يشرب الشامبانيا حتى التخمة ويتمتع بصحبة الممثلة الألمانية المشهورة، "مارلين ديتريش" التي كانت تعيش آنذاك في المنفى، بعيداً عن إرهاب النازيين، والتي كانت تُلقب بالملاك الأزرق (عنوان الفيلم المأخوذ عن رواية الكاتب الألماني "هاينريش مان")، لم يتردد لحظة واحدة في ترك ذلك الترف، وأن يلبي نداء صديقه الجنرال، فهو لم يملك هدفاً آخر في النهاية: الموت أو القتل على الأقل.لم يكن هناك أحد يشك بشجاعة صاحب "الشيخ والبحر". فعندما كانت تصرخ صفارات الإنذار، كان يظل على جلسته هادئاً، لا يهرب مثل بقية زملائه. وكان نموذجاً للرجل الجريء، وتركت شجاعته انطباعاً قوياً عند الجنود المتطوعين، الذين كان يصاحبهم، وكانوا يعرفون أن عليهم الاهتمام بشخص انتحاري.هناك روايات كثيرة عن شجاعة وصلابة همنغواي، يُقال أنه قتل بالفعل مجموعة من النازيين الألمان، حاصرهم في سرداب وفي يده قنابل يدوية. وهو ذاته الذي بدأ بإطلاق النار من بندقيته على الألمان. وعن تلك الواقعة تحدّث لاحقاً، همنغواي ذاته، ليقول بأنه قتل مجموعة كبيرة تضم 122" ألمانياً مسلحاً، باغتوه وكان هو مضطراً في حالة دفاع عن النفس". ولا يكتفي بوصف وجوههم عند قتله لهم، إنما يصف بالتفصيل في إحدى رسائله، عملية قتله أحد عناصر الحزب النازي وبصورة تثير القشعريرة: "أطلقت عليه النار بسرعة في البطن ثلاث مرات، وثم، عندما خر صريعاً على ركبتيه، أطلقت عليه النار في جمجمته، لدرجة أن مخه خرج من فمه، أو ربما عبر الأنف".كاتب التحقيقات الحربية الحقيقي، لا يحتاج في الحقيقة إلى تجهيزات خاصة أو عناية صحفية، كما يعيشها الصحفيون في الحروب الحالية اليوم والذين يصاحبون الفرق العسكرية المجولقة في تحركاتها، لأنه ذاته في النهاية يعيش من الحرب. لا أحد يعرف ذلك أكثر من "أب" كل كتاب التحقيقات الحربية في العالم، أرنست همنغواي، الذي ساهم في خمس حروب بين نظامية وأهلية (الحرب الأهلية الإسبانية مثلاً)، والذي لم يتوقف بعد الحرب من القتال حتى اللحظة الأخيرة. مرات متكررة تعرض للمخاطر أثناء العمليات الحربية، وجُرح فيها، بالإضافة إلى تعرضه لحوادث في السيارات، في حرائق الغابات، وأخيراً عند تحطم طائرته الخاصة. لكن كما يبدو، أن الموت الذي كان همنغواي  يبحث عنه ذاته وبمرارة في قمم الغابات والجبال، لم يأت إليه طواعية، إنما ظهر بدل ذلك أمامه على شكل ثلاثة أعداء، لم يشأ أن يخضع لسلطتهم: زوجته الرابعة، الشرطة الاتحادية، مكتب الضرائب. في ذلك الوقت فقد همنغواي تماماً قدرته في الكتابة. "هكذا لم يظل أمامه في اللحظة الأخيره غير مواجهة ضحيته الأخيرة، الموت، والذي أنهى هو، همنغواي عليه أخيراً"، قبل أن يقضي هذا عليه، كان همنغواي مغرما بالموت، حتى أنه وصفه بالبغيّ، وذلك ما جعله يعشق الحرب، كما كتب لناشره، "هناك (في الحرب) من الممكن أن يأتي الموت للمرء في أية لحظة، وليس عليه أن يكتب" وهذا ما عبر عنه الكاتب الأميركي جون أوبديك باختصار، وهو يقصد "هذا المرض المزمن بالموت الذي صاحب أرنست همنغواي طوال حياته، أو طوال مسيرته الأدبية على الأقل، "عندما وضع أخمص بندقيته المتهرئة على الأرض، مسنداً الجبهة على فوهة البندقية، وبنفس الحماس ضغط على الزناد عند مخزن البندقية": مرحباً بك، أيها الموت الجميل!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram