فخري كريم
أخيراً انتهى مستبدٌ آخر إلى قفص الاتهام ليحاكم علناً، ويُعرض على شاشات الفضائيات مجاناً، بعد أن قررت النايل سات إعفاء الناقلين من رسوم النقل.
ولكن حسني مبارك، خلافاً لصدام حسين، ادخل إلى قفص الاتهام على نقالة، وقد بدا في حالة وهن صحي لا شماتة يستدعيها.
المشهد بدا للمرة الثانية، بعد محاكمة صدام حسين، في هذا العقد المستنير بالحرية، شديد الغرابة على من عاشوا طوال حياتهم في ظل تسلط الأنظمة الاستبدادية، وأكثر مدعاة للدهشة بالنسبة للشعب المصري، الذي لم يشهد مثل هذه الواقعة على مدار تاريخه الذي ابتلي به بطغاة ومتجبرين وفراعنة، بل ربما لم يتعرف هذا الشعب الطيب والعظيم على سير المحاكمات ووقائعها إلا في الأفلام والمسرحيات الكوميدية، وهذا ما دفع أوساطا واسعة منه إلى تخيّلات مفترضة حول تهريب مبارك ونجليه، واستحضار بدلاء عنهم، حتى أن البعض طلب إجراء فحص DNA على "الرئيس المتهم".
بالنسبة لي، ظللت طوال عمري أعيش مع أمل تحولٍ دراماتيكي في سير العدالة والقضاء، يعيد الاعتبار للإنسان كقيمة بحد ذاتها، تستحق المراعاة والإنصاف والمساواة أمام القانون دون اعتبارٍ للمكانة والجاه والمال والسلطة، وان أعيش لحظات تداول السلطة في ظل نظام ديمقراطي، يفيض بالعدالة ويستند إلى المواطنة وحدها دون اعتبارٍ لأي انتماءٍ فرعي أو استقواءٍ بباطل متلفعٍ بالخديعة أياً كان منشؤها.
لا ادعي أن المشهد الحالي في وطننا حقق الأمل الذي ظل مدفوناً في ضمائرنا، نحن أبناء جيل الخيبات، فالفظاعات التي تكرسها التعديات على المواطنين (هل في العدالة والديمقراطية ما يفرق بين الاستبداد الشامل والخرق المحدود لحقوق الإنسان والتجاوز على آدميته؟) واستباحة الكرامات تحت مختلف التسميات والشعارات في ساحة التحرير وأقبية الاستخبارات وغيرها، والأكاذيب المتواصلة حول خدمة الوطن والمواطن، أو الملة والمذهب والدين، كلها قرائن حول استمرار ارتهان الأمل لصيغة مكيفةٍ من الاستبداد والتسلط واغتيال الحرية.
وفي كل الأحوال، فان مشهد الحكام الطغاة وهم في قفص الاتهام، يستثير الأمل ويضيّق من فسحة التشاؤم، ما دام الزخم الشعبي المُستَثار بالمشهد الدراماتيكي قد تحول إلى قوة دفعٍ يراكم السخط المخبوء، ويلاحق بها المستبدين والفاسدين، ويرفض الاستكانة والاستسلام، ويستعصي على الوعود الخادعة والتسويفات السياسية التي تسعى لإعادة إنتاج أنماط مكيفة من التسلط ومصادرة الإرادة العامة.
ولكن ما راعني واستفزني في مشهد محاكمة محمد حسني مبارك، هذا القدر من الوقاحة التي بدت في إظهار المحاكمة باعتبارها سابقة تاريخية في الاقتصاص العادل من الحكام الطغاة، وما يمكن أن يتداعى عنها من قيمٍ ردعيةٍ لمن تبقى من المستبدين، وكأن صدام حسين وأعوانه، لم يكونوا سوى نماذج للبطولة القومية المغدورة، كما حفلت بها الصحافة والأوساط القومانية والطائفية من ادعاءاتٍ في التعامل مع محاكمته وإعدامه. ومن يتابع وسائل الإعلام المصرية والعربية، "ولم أتوفر على مواقف عراقيين من هذا النمط" سيرى وجوه أشباه رجالٍ ممن أقاموا الدنيا ولم يقعدوها طوال فترة محاكمة الدكتاتور الجلاد صدام وزبانيته، والذين اعتبروا ما يجري لذلك الدكتاتور انتكاسةٍ وانهياراً للقيم العربية والإسلامية الأصيلة التي تحّرم "إذلال أولي الأمر"، في حين تراهم اليوم يهللون ويبتهجون بمشهد مبارك وهو في قفص الاتهام.
لا خلاف حول القيمة السياسية والمعنوية لمحاكمة حسني مبارك، بعد ثلاثة عقود من المكابرة والتسلط وتكريس الحكم المطلق والغلو في الاستخفاف بإرادة الشعب المصري، حد العمل على التمهيد لخلافة نجله جمال. وتتضاعف أهمية هذا الحدث كونها تتحقق في مصر العظيمة "أم الدنيا "، وهو ما سيترك تأثيراً عاصفاً على تطور الأوضاع في البلاد العربية، إذا ما سارت الأمور في اتجاه تعزيز الحياة الديمقراطية، وتكريس دولة القانون والحريات، الدولة المدنية القادرة وحدها على رعاية كل المصريين دون استثناء، وخلق بيئة تعايش مشتركٍ لهم جميعاً، وتحقيق التنوع في إطار الوحدة الوطنية.
لكن مشهد محاكمة مبارك يذّكر بمشهد صدام حسين في قفص الاتهام، وبين المشهدين وقائع تثير التساؤل وتدين قوى وأوساطا تبدي أقصى الحماسة لمحاكمة مبارك.
ما فعله حسني مبارك لا يحتاج إلى تسجيل وتذكير، وإحدى الوقائع الدامغة التي سيحاكم عليها، اتهامه بالإيعاز لوزير داخليته بإطلاق النار على المتظاهرين وقتلهم، وقد سقط جراء هذا العمل الوحشي مئات المواطنين، كما أن الادعاء العام يتهمه وولديه بتبديد المال العام، وتلقي العمولات وإمرار الصفقات على حساب مصالح الدولة، وثمة تهم أخرى متنوعة يستحق عليها العقاب العادل وفقاً للقانون.
ولنتوقف، عند بعض ما فعله صدام حسين، دون أي تداعيات تسعى للتخفيف من جرائم مبارك.
قاد صدام العراق إلى ثلاثة حروب ضد جيران، مما أدى إلى قتل مئات الآلاف وأضعافهم من الجرحى والمعاقين، ودمر البنية التحتية للبلاد، وبدد كل احتياطي الخزانة العراقية ووضع العراق تحت طائلة المديونية التي ما زلنا ندفع فواتيرها المجحفة. وفي حروبه الداخلية التي لم تنقطع أباد في أنفاله أكثر من ثلاثة وثلاثين ألف مواطن كردي وطمرهم في مقابر جماعية وزعها في أنحاء مختلفة من البلاد. وأزهق أرواح عشرات الآلاف في قمع انتفاضة آذار، وملأ السجون والمعتقلات بخيرة بنات وأبناء العراق، واستشهد في التعذيب منهم عشرات الآلاف
وماذا أيضاً..؟!
فلماذا استكثر الإخوان المسلمون والإسلاميون والعربجية على شعبنا محاكمة الطاغية، وجرائمه تكاد تفوق جرائم دزينة من الحكام العرب!
أية مقارنة مضحكة هذه التي تقام بين المحاكمتين والتي تجعل من محاكمة مبارك كمستبد، شاهداً على عصرٍ واعدٍ بالأمل بالعدالة، بينما ترى في محاكمة صدام حسين محنة للعرب والمسلمين، كما ينظر إلى المحاكمتين من هم على شاكلة الإخوان المسلمين والعروبجية المعروفين ومن المتباكين عندنا على متورطين، مثل وزير الداخلية المصري "العادلي" كانوا قد استباحوا دماء الآلاف من أبناء شعبنا، يرون في إعدامهم على جرائمهم " نكسة وطنية " لأنهم كانوا يقومون بواجبهم العسكري والمخابراتية؟
السؤال يستحق المراجعة، من البعض ممن لا زالوا يستعذبون مرارة الماضي، لكن المراجعة تشمل الذين لا يتعضون، ولا يجدون فيما يدور من حولنا، من تهاوي الحكم الفردي والاستبداد ما يعينهم على البحث عن سواء السبيل والاعتماد على قيم ومبادئ الديمقراطية أسلوباً للحكم.
ولعل رؤيا مستبدٍ مثل الحجاج تفيد في توصيف المشهد العربي الراهن ومقبل الأيام..حينما قال ذلك الطاغية:
أرى رؤوساً أينعت وحان قطافها واني لصاحبها..
ولكن الرؤوس اليوم رؤوس طغاة متجبرين وليست رؤوس أبناء شعب مسكين مبتلى بأولئك الطغاة.