اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > بغداد الفتاة

بغداد الفتاة

نشر في: 5 أغسطس, 2011: 05:13 م

عبد الخالق كيطانلم يعد يجدي نفعاً ذلك الانتظار القاسي الذي تمارسه النخب الثقافية العراقية منذ نصف قرن وأكثـر من الزمان. انتظار فرضته بالدرجة الأساس التغيرات السياسية التي ظلت على الدوام تحدّ من آفاق العمل الثقافي وتضع حدوداً وتصنع سجوناً للعاملين في الثقافة لكي يكتمل مشروع تلك التغيرات السياسية، فلا يكون من خاسر غير الثقافة نفسها ووجه مدينتنا.
لم يكن بالنسبة للسياسي العراقي ما هو مكروه أكثـر من المثقفين ومدينتهم الحقيقية. حاول هذا السياسي تعليب المثقفين ضمن الآيديولوجيات التي يؤمن بها. ويستطيع المراقب تأشير ثلاثة عناوين طلب من المثقف العراقي أن يندمج فيها في مراحل مختلفة من عمر البلاد المعاصر، وهي: الآيديولوجيا القومية، الشيوعية، والإسلامية. أما المثقف الذي يرفض الاندماج مع تلك التصورات فكان مصيره الاعتقال أو القتل أو النفي.rnقاد ذلك إلى اعتبار المثقف الحر في هذه البلاد مجرد خرافة ليس إلا. وسيذكر التاريخ الأدبي شيئاً من هذه الحقيقة لو قدر لهذا التاريخ أن يكتب بعيداً عن مهاترات تلك الأحزاب قريباً من فكرة الحرية التي هي عماد كل أدب. وطيلة أكثر من عقدين من العمل الثقافي العراقي، مستهلكاً ومنتجاً، أدركت كم هي عصية محنة الأديب والمثقف في بلادي. فهو يدفع دفعاً على الدوام ليكون ضد مبادئه، وفي كثير من الأحيان يجبر على التكيف مع مبادئ جديدة وافدة مع تسلم سلطة سياسية ما مقاليد الأمور. أكثر من ثلاثين عاماً رزح المثقف العراقي أثناءها تحت سلطة آيديولوجية لم تكره شيئاً أكثر من الاختلاف في الرأي. تحولت المدينة حينها إلى زريبة مهملة. وطيلة تلك السنوات تعرض المثقف العراقي، بلغة لا تحتمل الوشاية، إلى قمع مضاعف ولم يبق لديه غير التأسي سراً على حاله وهو يطالع سير ابرز أدباء العالم الذين كانت الحرية والمدينية قرينهم الدائم. الأحزاب الكبرى التي ألقت بعباءتها على البلاد منذ أكثر من نصف قرن لم تعمل شيئاً سوى الاستحواذ على الإنسان والفكرة معاً. نفي الإنسان الحر إلى غياهب المجهول ،ووئدت فكرته الحرة أمام عينيه. حولت تلك الأحزاب المدينة العراقية إلى شيء لا يمت إلى المدينة بصلة بعد أن شهدت المدينة ذاتها خلال النصف الأول من القرن الماضي محاولات تحديثية كبرى كانت تعد نموذجاً في المنطقة. وصل الحال اليوم إلى صورة تصلح أن تكون قادمة من القرون المظلمة.يصمت المثقف العراقي كثيراً. بل إنه تعود أن يعمل بصمت، بمعنى أن عمله الأساس في الخفاء. ينتج روايات وقصائد ومسرحيات ولوحات ومعزوفات موسيقية وتنظيرات لا تلقى أي صدى عند الناس بسبب القطيعة الطويلة التي تشكلت بين الجانبين، وسبب القطيعة هو الأحزاب الكبرى، والآيديولوجيات التي عممت على الجمهور مواصفات مزوّرة للثقافة الوطنية. فصار ينظر باستهجان شديد للعمل الحر، وصار المثقف الحر عند قطاعات واسعة مجرد كذبة، وفي أحسن الأحوال فهو ذلك التي يطلّ عبر الصحافة أو شاشات التلفزيون مكثراً من الردح والتغني بأمجاد الأمة المزعومة، أو شتم الآخر المختلف معه. وظل المثقف أسير شتم الذات أو لعن الظروف. هو ينتظر هبات السلطة أو يقبع في صفّ المتذمّرين. لم يستطع أن يضع خطوة إلى الأمام. فهو سلبيّ دائماً، أو في أغلب الأحيان.أما المدينة، فكانت ضحية ناصعة لهذه الهمجية التي أبتلي بها العراق. قطعت أوصالها مراراً وفرضت عليها أنماط من العيش تعود إلى القرون الوسطى. زحفت الأطراف إليها مرات ومرات، وأقصت كل فعل مديني عنها وتركتها نهباً للتخلف والجوع والشراهة. تأتي الآيديولوجيات الجائعة للتدمير لتحطم أبرز ملامح المدينة. تقضي على قاعات المسرح والموسيقى. تسفّه الذوق الفني. وتطيح بأي محاولة متأخرة للحداثة في الأدب والفنون. تفعل فعلها العجيب، المدفوع الثمن بشكل أكيد، لإقصاء أي ملمح إنساني أو جمالي عن وجه المدينة. وشيئاً فشيئاً تتحول المدينة إلى مجرد خربة ترتع فيها كلاب سائبة وبضعة منتفعين. ينزوي الإنسان والمثقف من جديد في بحر الظلمات والكتمان والخوف. وتكثر البنايات التي لا تمت إلى أي ذوق، حتى ولو كان ذوقاً بدائياً.لم يجد نفعاً ذلك الصمت الذي أدمناه، فصار ميزتنا. تحولنا إلى سلبيين وهامشيين أكثر من أولئك الذين وضعتهم ظروفهم في طبقة الأميين وغير المتعلمين. وصار وجودنا غير ضروري إلا بوصفه استكمالاً لمشهد الخراب. أغلبنا ظل يفضل الحل الفردي، والعمل الفردي. فهو يكتب هنا وهناك محاولاً أن يكون تنويرياً في زمن ظلامي. ولكن هل يؤثر عمله هذا في قطاعات واسعة من أبناء شعبنا الذين تستعبدهم الآيديولوجيات والآيديولوجيون؟ لماذا ظلت المبادرة المجتمعية غائبة عن عملنا؟ ولماذا لا نمدّ أيادينا لبعضنا البعض لكي نقول بوضوح وثقة أننا هنا موجودون ونحاول العمل جنباً إلى جنب مع محبي الحرية وعشاق المدينة؟بغداد الفتاة هي الجمعية التي نجد أن ساعتها قد حانت. جمعية لا تمتّ إلى السياسة بصلة وإن كانت همومها سياسية. هي ليست بالحزب السياسي كي نرسل رسالة واضحة لا لبس فيها للسياسيين بأننا لا نريد مزاحمتكم في عماء آيديولوجياتكم، ولا في فسادكم الذي أزكمت رائحته الأنوف. وهي رسالة واضحة أيضاً إلى أبناء شعبنا بأن أعضاء هذه الجمعية لا يفكرون بسلطة سياسية بل جلّ محاولتهم تريد التأكيد على أهمية المبادرة المجتمعية، وأهمية النهوض بالمدينة العراقية وثق

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram