اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > لوحة ليوناردو دافنشي تخبو سريعاً..خمس عشرة دقيقة (طويلة)مع"العشاء الرباني الأخير

لوحة ليوناردو دافنشي تخبو سريعاً..خمس عشرة دقيقة (طويلة)مع"العشاء الرباني الأخير

نشر في: 5 أغسطس, 2011: 05:17 م

ترجمة : عباس المفرجييمكن للموقع أن يبدو أكثـر شبها بمحجر صحي . يقود المدخل، عبْر عدّة أسوار خشبية معلّقة وسلسلة من الأبواب الأوتوماتيكية، إلى قاعة كبيرة مقنطرة، شبه خصوصية، يرقد على يمينها المريض، فيما يهدل حشد من الناس بجانب سرير مرضه.
كنت بين الحين والآخر أنضم إلى الحشد، أمام لوحة ليوناردو دافنشي ’ العشاء الرباني الأخير ‘، في حجرة الطعام السابقة المبيّضة بالكلس لكنيسة سانتا ماريا ديللا غرازيي، نتفحصها وهي على تَّكيَّة مجلدة،لكنها باهتة نسبيا، نتوقع أن نقضي الخمس عشرة دقيقة المسموح بها للسّياح . يسوع ينقل رسالته للخائن، كما الأمر دائما، وتلويح مباغت باليد يفرّق الحواريين على قماشة الطاولة العريضة مثل قطع البولنغ الخشية . كان صباحا ماطرا، باردا عندما وقفت آخر مرّة لمشاهدة الصورة، التي لم يحجب زغبها وهشاشتها بريق المرجان، الأزرق والوردي . فبدأت أحلم بأمواج الشاطئ الكاريبي . كتبت- بعجلة- ملاحظات حول الاقتصاد في الشكل والمنظر الطبيعي البعيد في اللوحة، لكنها ما لبثت أن إنسا بت بعيدا عن التركيز، هناك في الأعلى على الجدار، في وهج بقع الضوء، مع دمدمة الناس حولي وصوت تكتكات الساعة .لماذا تكون أعمال الفن العظيمة، أو لنقل الشهيرة، أكثر عسرا على التركيز ؟ هل هي مسألة رؤيتها المرّة تلو المرّة فنظن أننا نعرفها مسبقا في عيني ذهننا؟ أصدقاء لي، مؤرخو  فن، ينوحون قائلين انهم لم يعد بإمكانهم تحمّل ’ العشاء الأخير ‘، لأن من المحزن جدا رؤيتها بحالتها الراهنة، وهم يكرهون أن يُدفعوا بالقوة من القاعة بعد ربع ساعة. ذكّروني بنكتة بورشت بلت حول الشخص الذي يتشكّى من مطعم يقدم طعاما رديئا في أطباق صغيرة جدا .لكني أراهن بان أكثر الناس ممتنين لهذا الوقت المحدد . كم مرّة، هذه الأيام، يتاح لنا التوقف وقتا أطول أمام أي عمل من أعمال الفن ؟ لاحظت أن زوّار سانتا ماريا ديللا غرازيي يميلون إلى التحديق مرّات قليلة إلى لوحة ليوناردو، بين الوقت الذي يلقون فيه نظرة على بطاقة التعريف المعلقة على السياج أسفل اللوحة، ثم، بعد بضع دقائق، يسيرون متمهلين نحو لوحة الفريسكو في القاعة الأخرى، قرب المخرج، مختلسين نظرة على ساعاتهم، كأنما يعدّون الدقائق الباقية على اللحظة المناسبة للانسحاب من المكان .ربما زمن ليوناردو ولّى . ربما هذا هو جزء من القضية . فهو ينتمي إلى عصر آخر، انغمس في تكلّف عتيق الطراز ومواضيع شابتها النقائص . ومثل أقراص الليزر ويوغسلافيا والعليل تسارافيتش ألكسي، جاءت لوحة ’ العشاء الأخير  ‘ إلى عالم منحوس . لم يمض عشرون عاما على الانتهاء من ترميمها، في 1948، حتى بدأت تتقشر .جورجو فاساري، الفنان وكاتب سيرة ليوناردو، أكّد انها خراب قبل عقود قليلة مضت . الترميم الهزيل  وقرون من التلوّث والحروب، تركوا اللوحة في الحالة التي رأيتها فيها أول مرّة، في إضاءة خافتة، حين كنت مراهقا من مريدي الفن في نهاية السبعينات، قبل وقت قصير من خضوعها في الجولة الأخيرة لعملية جراحية لإعادة بنائها.تلك الجولة الأخيرة استغرقت واحدا وعشرين عاما، فظهرت لوحة مختلفة بالجملة على صدر صفحات الجرائد، تمّ إزالة الترميم السابق وملئت الرقع الفارغة من الصبغ بألوان مائية. بدا العمل شبحي الشكل، يشبه بخار الأنفاس على الزجاج . انها مدخّنة، على نحو طبيعي، بشكل يبعث على الحنين، لكن حالة المريض كانت على الأقل مستقرة، كما أجاب القيّمون، وما أُنقذ منها تطلّب منّا الصبر الكثير . الآن، تقتضي ساعات المشاهدة موعدا مسبقا فقط، والخمس عشرة دقيقة لكل زائر، هي لصالحنا وصالح الفن .هكذا كانت اللوحة التي رأيتها، قذرة لكنها مزخرفة، أثناء الفترة الحازمة من أواخر أيام فلليني وريد بريجدز، وولدت ثانية في عهد نيّق تسوده التكنلوجيا شديدة الصغر . بدلا من القاصدين المتوحدين والإضاءة الطبيعية، تدفق رزما من السيّاح الذين كانوا حجزوا بطاقاتهم عبْر الانترنت، وترافقهم إضاءة اصطناعية دمّرت الصورة . معصرنة وهي في ظل مناخها وبيئة تنظيم الحشود الجديدان بدت، واحدة من أكثر اللوحات شهرة في تاريخ الفن، مثل علب طماطة فارغة أو متنزهات يمنع فيها التدخين . حتى تحديد الوقت، كرم الضيافة العصرية للصناعة، لم يفعلا سوى الحد من عزيمة الزوّار على سبر أعماق الذي لا أعماق له .نحن في النهاية نحصل على الثقافة التي نستحق، والتي تمثلنا . في ذلك الصباح وجدت نفسي منجرفا مع الحشد إلى القاعة الثانية التي تعرض فيها لوحة الفريسكو، عمل ضخم من عصر النهضة يمثل الصّلب أنجزها جوفاني دوناتو دا مونتورفانو : خيول، جنود وجمع من الأشكال البشرية يتحرك من غير نظام على قواعد الصلبان التي تحلّق مثل الشجر الكاليفورني العملاق، صاعدة نحو الكوّات تحت السقف .انها عمل وضّاء، مليء بالألوان، فكرت قائلا مع نفسي، ثم ألقيت نظرة إلى الوراء على لوحة ليوناردو. ونظرت، تقريبا بلا وعي، إلى ساعتي.rnعن صحيفةالنيويورك تايمز

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram