اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > في ليلة رحيله الثالثة..محمود درويش يسرق نار اورفيوس مرة أخرى

في ليلة رحيله الثالثة..محمود درويش يسرق نار اورفيوس مرة أخرى

نشر في: 9 أغسطس, 2011: 05:40 م

علي حسن الفوازفي ذكرى ليلة رحيله الثالثة تتوقف الكثير من، الساعات التي (تركض كالخيول) كما يقول محمد خضير، أو الساعات التي تشبهنا، ليس لأنها عناوين فاضحة لمتاهات الزمن الذي يستعملنا كثيرا، بل لكي تحيلنا إلى زمن آخر، يومي ومباح، ويمكن استعماله وصيانته والاحتفاظ به مثل روائح العائلة، تلك هي غواية محمود درويش إزاء الزمن،
 إذ لم يصدّق الكثيرون موته السريري او موته البايولوجي أو موته عند سعاة البريد الذين لم يتسلم رسائلهم، إذ هو حاضر بنوع من السكنى الدائمة، واللجوجة أحيانا عند خاصرة اللغة بوصفها بيت الكائن، والتي تولّد أبناءها الضالين بسرانية خنثوية طاعنة. والتي تمنحهم غواية القصيدة المغسولة بالشهوات الكبرى، تلك التي يلتذ الجسد لهبوطها متوهجا لامعا وكأنه يصطدم بنيزك شائه ضل طريقه في السديم.ذكرى ليلة رحيله الثالثة توقظ فينا نحن الأبناء قسوة الآباء الغائبين الذين يشبهون السماء الخفيضة، مثلما توقظ في سوانحنا قسوة الكلام الذي تنكسر فيها الوصايا، والذي يخرج إلى الشوارع العامة والزوايا والتكايا والحانات دونما رعبه القلق المشبوب بأسئلة الأب القديم عن جغرافيا الأمكنة والأصدقاء والعادات. احسبه الشاعر الوحيد الذي لم يصدّق احد موته، ربما لأنه أكثر حياة من الجميع، وربما لأنه يملك القدرة على أن يشتري كل أزياء الشعر ليلبسها في الكارثة والشهوة، في العزاء والسرير، في نوبة اللذة أو في نوبة الخوف، وربما أيضاً لأنه لا يخشى الأمكنة التي كثيرا ما توهم أصحابها بنوسالجيا الموت، لذا هو يستعيد فلسطين وعمان وباريس وبغداد وحيفا في القصائد مثلما يستعيد أوراقه من جارور مكتبه، لان هذه المدن تشاطره الكلام والقلق وحبّات القلب المرتبك في الخفقان...في الليلة الثالثة لرحيله يعيدنا درويش إلى القصيدة مرة أخرى، إلى هذه اللزوجة الدسمة التي تبهرنا بالإشباع والقلق في آن معا، مثلما تمنحنا اطمئنانا ولو مغشوشا أو فاضحا، إذ تضعه على رؤوسنا التي تمارس العاب الصخب والتمرد والاحتجاج، وتلجأ بعد هذه النوبات الصادمة والفارقة إلى الغناء، إذ يكون الغناء هنا تعويضا عن الاحتباس اللغوي والاحتباس العاطفي، وخوفنا من أن لا يسمع احد أصواتنا المهموسة المذعورة من الحكومات والاحتلالات والأصدقاء العسس..فهل يمكن أن تتحول استعادة قراءة محمود درويش بعد هذه الليلة إلى نوع من المسؤولية الثقافية والجمالية؟ وهل يمكن لهذا الشاعر الذي غنى أحزاننا كثيرا أن يتحول إلى صانع أحلام من الطراز النادر؟ وهل يمكن لدرويش المباح لكل القراءات أن يقف الآن مزهوا بثورات الربيع السياسية وضجيجها المثير للجدل، والتي لم تتحول بعد ثورات شعرية للأسف؟أظن أن هذه الأسئلة هي مدخل قد يبرر الحديث كثيرا عن ظاهرة إنسانية وشعرية اسمها محمود درويش، ليس لان هذا الدرويش شاعر استثنائي وعابر للعادات الشعرية، أو لأنه ظل يغني حتى لحظة موته الأخيرة- وسط الموت العلني للكثير من مظاهر الغناء الشعري-  بقدر ما أن درويش كان يدرك الكثير من سرائر هذا الموت المركب والفادح، موت التاريخ بمعناه اللامتخيل، والذي تحول عند البعض إلى فقهيات سوداء والى حروب يافطات وإيديولوجيات وتكايا، وموت السياسة بمعناها كدكاكين، وبمعناها كفرجة ظل يصنعها الطغاة لنا، والتي أصابت الكثيرين بالغفلة عن السرّاق الحقيقيين للأرض والمعنى وكل أقنعة الأعداء، وبالتالي فإنها أصابتنا بأنواع لا تحصى من الكآبات الوطنية المزمنة..في استعادة ذكرى الشاعر محمود درويش يبحث الكثيرون عن الترياق التاريخي والشعري، وربما يبحثون عن الشعر ذاته ليقلبوا الكثير من  أوراقه، لإدراكهم أن درويش كان يقلب أوراق الشعر دائما، وان علاقته بالآخرين هي علاقة شعرية خالصة، حتى علاقته بفلسطين وجسده وأصدقائه ومنافيه وقلبه المرتعش كانت مصممة بطريقة شعرية، وبالطريقة التي تجعل طقوسها حافلة باللغة الأنيقة وأصواتها المتكسرة على بعضها البعض وما يتصاعد من إغواء فناجين القهوة وبهاء الضحك والكلام الذي يرشّ بلله على الحاضرين، لذا لامناص من استعادة الشاعر محمود درويش بهذه الطريقة التي يطمئن إليها كثيرا، اذ كان يعرف شفراتها، ويلتذ بكل ما يخرج من اشتباكاتها، حتى وان كان ضاجا وزاعقا، لأنه يعرف بقين كامل، أن الشعر هكذا، أصوات يركبها أصحاب الشفرة لتبدو بمزاج اعتراف او أغنية او همس او رثاء، وأحيانا تكون بالحكمة العميقة التي تفرّق بين القبلة أو العضة كما يقول الشاعر خيري منصور.محمود درويش لم يكن شاعر مراث كسولة لطلل الأرض، ولا حتى لخسراناته الكثيرة ولأيامه المضللة بالمتاهات، انه شاعر بامتياز الفيلسوف أو الحكيم، وأحيانا يلبس قفطان العراف ليكشف عن الأسرار الخبيئة في اللغة، ويجلو عنها غبار حروبها ولهاث محاربيها، ويفصح عمّا في روحها من هتاف قديم، او احتجاج مؤجل، لذا هو يكتب ويرمم عبر الكتابة خرابات الروح قبل خرابات الارض، يستحضر اللذة العاطلة، والجسد المكسور والمشوه، والأصابع المخذولة، ليقول وبصوت عال إن اللغة تكفي والغناء يكفي، اذ ظل الطغاة والمحاربون يخشون لعبة التأويل والغناء، لأنها اللعبة التي تكرر لعبة حامل النار اورفيوس الشاعر والحكيم والبطل الذي سرق نار الطغاة ليضيء بها العالم الذي يعيشه الفقراء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram