اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > فيضان!

فيضان!

نشر في: 28 ديسمبر, 2012: 08:00 م

آخر فيضان نهري ضرب بغداد كان في عام 1954. بعدها بني سد الثرثار الذي جعل الفيضان شيئا من الماضي. وسد الثرثار أكبر من السد العالي في مصر. لكنه ككل شيء في العراق لم يحظ بتقدير ولا اعتبار، بينما تحول السد العالي الى اسطورة. فعلى يد السياسة والدعاية الناصرية صار ملحمة بطولة، وقصة نجاح، ونشوة نصر ألهبت المشاعر من المحيط الى الخليج.
"احنا بنينا واحنا حنبني السد العالي". كلنا يتذكر هذا المقطع من أغنية عبد الحليم حافظ. لا بأس. أمر طيب أن تفرح خلق الله بانجازاتها، رغم نواقص شابت بناءه، وتأثيرات مخربة على منطقة النوبة، التي أغرق السد آثارها واضطر سكانها الى الهجرة. أما سد الثرثار فقد خلا من مثل تلك الأشياء، وكانت آثاره بناءة وايجابية، وأهمها حماية بغداد الى الأبد من فيضان دجلة الذي كان مدمرا. لكنه لم يأخذ مكانا في العقل ولا في القلب العراقي لأن النظام الملكي عموما، والباشا نوري السعيد خصوصا، بخس حق الإعلام ولم يقدِّر الدعاية. فكان أن ثأر الاعلام منه، ونالت منه الدعاية، فتسودت صفحته، ثم طويت بثورة الجيش والشعب عام 1958.
وسواء اختلفت او اتفقت مع ثورة الجيش والشعب، فقد نشبت عن أسباب، ونتجت عن مقدمات. صحيح ان الملكية، خلال عمرها البالغ 37 عاما، نقلت العراق من الفوضى والرجعية العصملية ووضعته على سكة النظام والمعاصرة، ولكن كانت هناك نواقص وسلبيات اختنق منها الشعب، الذي كان يريد أكثر، ويحلم أكثر، فثار وكان ما كان.
أما اليوم فاننا كشعب نبدو وكأننا فقدنا قوة الإرادة، وأضعنا القدرة على الحلم، وطوينا فكرة الثورة حتى ولو طافت بغداد في الفساد، وغرقت من المطر. انني اتطلع الى الشارع الذي يطل عليه بيتي فأراه وقد تحول الى نهر. هذا وأنا أسكن في منطقة كانت تعد من مناطق الكرخ الراقية على عهد صدام. وكنت أنتظر ضيفا من صوب الرصافة فاستغرق وصوله الى بيتي ثلاث ساعات ونصف، وهي المدة التي يستغرقها السفر من جنيف الى بغداد بالطائرة. لقد فاضت بغداد وتعذر السير في طرقها على الإقدام أو بالمركبات. وهذا أول فيضان أشاهده على الطبيعة لا على الشاشة. أشهد اني عشت!
وسألتُ: هل كان يحدث ذلك زمن صدام. وجاء الجواب بالنفي. قالوا ان مجاري تصريف مياه الأمطار موجودة. وكانت تقوم بواجبها، لأن الصيانة والإدامة كانت متوفرة. متوفرة في زمن الحصار الذي شحت فيه الموارد وتراجع راتب الموظف خلاله الى ثلاثة أو خمسة دولارات. أما في زمن الميزانيات الإنفجارية فإن الصيانة والإدامة معدومة، ولذلك غرقت بغداد. غرقت الى درجة اضطرت معها الحكومة الى جعل اليوم التالي للفيضان عطلة رسمية.
لنقل ان الحكومة اتيح لها العمل اعتبارا من 2008، بعد نهاية "الحرب الطائفية". وبذلك تكون قد مرت عليها خمسة أعوام كاملة عجزت خلالها عن صيانة مجاري تصريف المياه في بغداد. مجرد صيانة، لا بناء سد عال ولا ثرثار. وهذا وحده سبب كاف لاعتبار الحكومة ميتة لا فاشلة وحسب. ومع ذلك فإن عينها لا تنكسر بل تتواقح وتتحول الى حكومة ثرثارة. والناس ساكتة. لكن فقط الى حين. فما من شعب إلا وتحتم عليه يوما أن يقول: لم يعد الخوف مبررا ولا الصمت ممكنا ولا الكلام وحده كافيا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 6

  1. KHALIL

    شكرا لكاتب المقاله الرائعه والموضوعيه لكن اريد ان تسال الحكومه عن مؤهلات الكادر القيادي الحالي في امانة بغداد وكيفية استلامهم المسؤوليات ابتداء من الوكيلين البلدي والاداري والمدراء العامون ورؤساء اقسام المجاري ودائرة المجاري ودائرة الماء والله ستجدها مهزل

  2. كاظم الأسدي

    الأستاذ أحمد.. نعم كانت الصيانة والإدامة( زمن صدام ) للمشاريع القديمة (( الملكية والجمهورية ))تكفي لدرء الفيضان عن بغداد لسبب رئيسي واحد هو .. إعتماد الدولة الديكتاتورية في حينها على التكنوقراط من الأكاديميين في مجالات إختصاصاتهم لا على معفري الجباه من ال

  3. ابو حسين الخزعلي

    الشعب ينتظر منكم قيادته من الشارع لا من الفضائيات والفيسبوك وسد الثرثار وكثير من السدود انشئت بعد عام 68 وليس في زمن الملكية التي كان يتحكم بها الاقطاع والطبقة التجارية وكلاء الشركات وابناءهم وان التغير الحقيقي الذي سمح للشعب ان يعبر عن نفسه هو في 14 ت

  4. KHALIL

    شكرا لكاتب المقاله الرائعه والموضوعيه لكن اريد ان تسال الحكومه عن مؤهلات الكادر القيادي الحالي في امانة بغداد وكيفية استلامهم المسؤوليات ابتداء من الوكيلين البلدي والاداري والمدراء العامون ورؤساء اقسام المجاري ودائرة المجاري ودائرة الماء والله ستجدها مهزل

  5. كاظم الأسدي

    الأستاذ أحمد.. نعم كانت الصيانة والإدامة( زمن صدام ) للمشاريع القديمة (( الملكية والجمهورية ))تكفي لدرء الفيضان عن بغداد لسبب رئيسي واحد هو .. إعتماد الدولة الديكتاتورية في حينها على التكنوقراط من الأكاديميين في مجالات إختصاصاتهم لا على معفري الجباه من ال

  6. ابو حسين الخزعلي

    الشعب ينتظر منكم قيادته من الشارع لا من الفضائيات والفيسبوك وسد الثرثار وكثير من السدود انشئت بعد عام 68 وليس في زمن الملكية التي كان يتحكم بها الاقطاع والطبقة التجارية وكلاء الشركات وابناءهم وان التغير الحقيقي الذي سمح للشعب ان يعبر عن نفسه هو في 14 ت

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram