TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > على هامش الصراحة: ذكرى رحيل.. وبهجة استمرار

على هامش الصراحة: ذكرى رحيل.. وبهجة استمرار

نشر في: 16 أغسطس, 2011: 05:30 م

 إحسان شمران الياسريتمر في مثل هذا اليوم الذكرى الثلاثون لرحيل الكاتب والروائي والصحفي (شمران الياسري) رحمه الله تعالى.. ففي مثل هذا اليوم ،السابع عشر من آب ، من عام 1981 ترجّل (أبوكَاطع) عن صهوة جواده، ونزع بيديه كل ممكنات استمرار الحياة، ووقف بعيداً عن مسرح مصرعه الأليم يتفرج على الدنيا وأهلها، ضاحكا ملء روحه من خديعتنا الكبرى في الاستمرار بالحياة، إذ كانت حياة فارغة إلا من معاني العبودية وممارسات القمع والتكميم.
 ومهما كانت صورة اللحظات الأخيرة لهذا العراقي الذي ظلت روحه فوق أكواخ العراق وبساتينه وخيام بَدْوِه و (شراويل) مقاتليه على الجبال القصية، فإننا ما زلنا أمام عدة أسئلة عن تلك الميتة التي أفزعت نظام الحكم، فراح يبحث عن قصاصات الورق التي بحوزتنا، وعن بقايا الصحف اللبنانية التي نشرت نبأ فجيعتنا به..فهل مات شمران الياسري ولم يُقتل، أم قُتل فـ(مات)، أم قتلوه فأظهروه ميتاَ.. كلها عناوين جانبية لأهم الأنباء، وأقدرها في تثبيت الساعة الزمنية عند تلك اللحظات. فأبو كَاطع تعرّض لحادث سيارة بين مدينتين في أوربا، وتظهر في سياق الحدث المأساوي إشارات إلى إن الحادث اغتيال وليس قضاءً وقدراً، فيما تُبدي أنباء أخرى فرضية القضاء والقدر.وخسارتنا الكبرى ليست فيما إذا كان صدام قد تبعه إلى آخر الدنيا وقتله، فهذا أحد توابع القصة، أما أصل القصة، فهو الكم الكبير من الأعمال التي أجّلها الراحل إلى يوم آخر وسنة أخرى، ثم توالت الآجال واحداً تلو الآخر دون أن يتمكن المُبدع المفقود من إكمال مشاريعه.. تلك الخسارة الكبرى.. والخسارة الأكبر إن جيلاُ من الشباب لم يعد يكترث بتأريخه وبموروثه، وبمبدعيه.. وإن شمران الياسري غادر الحياة عندما أصبحنا بمسيس الحاجة لجهوده وجهود مبدعين آخرين. لقد كتب أبو كَاطع أهم مدونة ثقافية عن تاريخ العراق وريفه، وشعبه على ضوء الفانوس، وهو يتابع الأبطال، الأحياء منهم والراحلين.. يُحرّكهم ويُعدّل مواقعهم وأدوارهم في روايته لكي لا تكون لهم تأثيرات سلبية على مسارها ،(نحتفظ اليوم بأكثر من مسودة لرواياته).ونحن لا نفعل ما بوسعنا، فقط لتصوير النزوح الجماعي لاستذكار الراحل في يوم أو أصبوحة، ولا في محاولة (حشر) الذائقة العراقية لاستطراء مُنجزٍ فني في ذكرى كاتبه.. بل نسعى لتشكيل قاطرة مُحتَدِمة الحراك نحو الإبهاج المستديم بما قدم منتجون كبار من وزن الراحل.. فقصة اللغة والموروث، ونضال الفرد والأمة نحو الإمساك بالضرورات، قضية ليس لها ارتباط بالمراحل والذوق وبالعادات، بل إنها لوح كبير ومسمار مهم جداً في هيكل السفينة التي تحمل حياتنا.. فبدون اللغة، وأدوات التخاطب، والحب، وأغاني (الرعيان) وضجيج أجراس (غنم الشيوخ) ولهيب الصيف اللاهث، ما كانت لتكون حياتنا، ولا استطعنا أن نتحدى ملايين اللحظات العصيبة التي تواجهنا في مسيرة حياتنا..إن كتابات شمران الياسري، وأشعار الجواهري والبياتي، وأغنيات القبنجي ويوسف عمر، و(مجرشة) عبود الكرخي ومن كان قبلهم وبعدهم، وفناجين القهوة التي ظلت تدور على ضيوف دواويننا، والنواعير التي اغترفت ماء دجلة والفرات، وأطلقت نبع الحياة لبساتيننا، كلها رَتَقتْ قوانين حياتنا وفصولها، وأبقتنا أحياء إذ كان مُقدراً لأمتنا أن تفنى..وما القباب الصفراء والخضراء للأضرحة والمساجد والكنائس إلا عناوين لجدوى إيماننا وافتتاننا بالزمان الذي نمضيه نذكر الله ومجد اليقين الذي يبعثُ في تجليات الحاضر نعمة التوطن في المعقول، ويُعطي لـ(خميرة) الإيمان قدرتها على الاستمرار.وظلَّ شمران الياسري، الذي كتب النقد اللاذع في أوج قوة السلطة، ورفضها للصوت الآخر، الرمز الذي كان الناس يرنون إلى صباحات أعمدته المهيبة، وهي صوتهم المخنوق..ولم يسع السلطة أن تحتمل هذا الموطن (المُر) لآمال الناس، فنفته، ثم (رغبت) بأن يموت هناك، فكان لها، أمر، أو صدفة. وإذا كان لشمران من تاريخ نختار له موعدا لاستذكاره، فإنه يؤرخ لـ (مُهجة) رجل كان صحفياً وأديباً وروائياً وإذاعياً لملم كل هذا المنجز في شخصٍ لم يكن سياسياً بل كان فلاحاً من طراز فريد.  واليوم، يُفترض أن تحتفل جامعة واسط بافتتاح قاعة كبيرة وأنيقة للاحتفالات والمهرجانات باسم (قاعة شمران الياسري)، وهي إحدى قاعتين قرر مجلس الجامعة وضع أسماء اثنين من مبدعي العراق من أبناء المحافظة عليهما لتأكيد الهوية المعارفية للجامعة، وصِلتها بجانب من جوانب رحلة التنوير العراقية التي قادتها كوكبة من مثقفي العراق منذ مطلع القرن المنصرم.لتحيَ ذكرى (شمران الياسري)، صاحب خلف الدواح، ورائد الصراحة.. وحامل (الزناد) من فصل لفصل من أجزاء روايته.. والزاهد في الدنيا.. وصاحب النبوءة المبكرة بـ(عرس الواوية) الذي تعيشه دولتنا غداة سقوط النظام الذي حاربه أبوكاطع..وعهداً بأن نحمل تجربته وقواميسه ومشاريعه إلى الناس الذين أحبّوه وأحبّوا كفاحه من أجلهم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram