علــي حســين من أغرب ما قرأت من تعليقات على ثورات الشعوب العربية ما صرح به السيد نوري المالكي الذي اكتشف أن تضحيات الشعوب العربية المقهورة ونضالها في سبيل ترسيخ الديمقراطية ما هو إلا عبث في عبث والسبب لأن "إسرائيل هي المستفيدة الأولى من الربيع العربي"،
ولم يكتف المالكي بذلك، بل انه حذر من أن "الاحتجاجات التي تشهدها بعض البلدان لن تكون ربيعا، بل ستتحول إلى خريف يجر تلك البلدان إلى سايكس ـ بيكو جديدة وتقسيم الدول إلى دويلات".حديث المالكي ذكرني بما يكتبه ويصرح به العديد من مناصري الأنظمة القمعية ممن يرون في الثورات العربية نهاية لأحلامهم ومكاسبهم الشخصية، فقبل مدة قرأت لأحد هؤلاء وهو يعلق على تظاهرات الإسلاميين في مصر "هنيئا لكم الثورات الديمقراطية، هنيئا لكم حكم الإسلاميين والقاعدة".المالكي ومعه هذا الكاتب للأسف ليسوا أفرادا، بل هم يعبرون عن تيار مصاب بمرض "فوبيا التغيير والإصلاح".طبعا حديث المالكي لم يتفوه به مواطن عادي، بل هو لمسؤول كبير يفترض انه واسع الاطلاع ومع ذلك فأنه يلف ويدور كثيرا ليحاول الإيحاء بان مصيرا مظلما ينتظر الشعوب التي ثارت على جلاديها، وبالتالي يصبح مبارك والقذافي و صالح والأسد صمام أمان لهذه الشعوب التي سيجرفها تيار الضياع. ما يريده المالكي ومعه أصحاب هذه الفكرة هو التأكيد على أن ما حدث في بعض البلدان العربية لم يكن بسبب ثورة الشعب على الفساد والاستبداد، بل مجرد تظاهرات غذتها الصهيونية وأصحاب مشاريع التقسيم الذين يريدون إحياء سايكس بيكو جديدة لا يوجد خلاف على وجود أيادٍ أجنبية كانت ولا تزال تعبث في العديد من البلدان العربية، الخلاف فقط لمصلحة من تلعب هذه الأيادي؟ لمصلحة الشعوب أم لمصلحة الحكام؟، إذا كانت إسرائيل قد أفادت فإنما كانت فائدتها الأولى من استمرار نظام حسني مبارك، لقد خرجت معظم صحف إسرائيل تشجب محاكمة مبارك، بل إن البعض اعتبره يوما حزينا لإسرائيل بينما قالت صحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية "إن العالم شاهد قفص اتهام وفي داخله كانت نقالة طبية ويرقد عليها الزعيم السابق للعالم العربي كما وصفته الصحيفة العبرية- فإسرائيل عاشت في عهد مبارك وعهد الأسد أزهى عصور الاستقرار، فهل يعقل أن تعمل إسرائيل ضد مصلحتها، الأكثر تأكيدا أن كل التحركات الإسرائيلية منذ انطلاق شرارات الربيع العربي هدفت لإعادة مبارك، والحفاظ على نظام القذافي، والسعي لتأخير التحرك الأمريكي ضد الأسد، وبعيدا عن مؤامرة سايكس-بيكو لم ينس المالكي طبعاً أن يذكرنا بالتجربة الناجحة في العراق والتي حسب قولة تتلخص في "بناء قواته في ظروف استثنائية صعبة، ونجاحه في عملية استثمار الثروات من خلال عقود النفط وجولات التراخيص، التي جرت بشفافية وعلانية في حين أن غالبية البلدان تمارسها بسرية تامة". طبعا لا تعليق عندي على هذا الكلام الرومانسي، ولست ممن يرفضون أن يكون العراق بخير وساسته ومسؤوليه يمارسون أقصى درجات الشفافية مع المواطنين، ولكن دعونا نتساءل، هل حقا نحن نعيش اليوم عصر النزاهة، وهل انتهت وتبخرت كل المشاكل لنقول إننا نجحنا في عملية استثمار ثروات البلد، والسؤال الأهم من أفاد من الاستثمار؟، لست ضليعا في شؤون الاقتصاد ولكني اعرف أن شبابا بعمر الزهور محرومون من فرص العمل، واعرف كما يعرف السيد المالكي قبلي أن آلاف الأسر العراقية تعيش تحت خط الفقر، واعرف كما يعرف الكثير أن الوظائف والامتيازات في ظل بلد المشاريع العملاقة لا تمنح وفق معايير الكفاءة والخبرة، وإنما وفق قانون النفاق والمحسوبية والانتهازية، وأعرف أننا نعيش في بلاد يشعر فيها المواطن أنها ليست له وإنما فصلت خصيصا للحكومة ولمسؤولين ينظرون إليها باعتبارها بقرة حلوباً، وأعرف أن القانون عندنا أصبح انتقائيا ويطبق بعشوائية، لكني ومعي الملايين لا نعرف كيف تسنى للسيد المالكي أن يقول إننا نجحنا في الاستثمار ونحن لا نزال نعيش في دولة لم تحدد أهدافها بعد، وفي ظل حكومة صنفت في أعلى مراتب الفساد المالي والإداري. إن ترويج نظرية "إننا بخير" و"أن العراق يتقدم"، و"أن الإنجازات كثيرة"، و"لا توجد مشكلة أصلا"؛ المسألة كلها مسالة وقت سواء كان مئة يوم أم مئة أشهر، فالنهضة قادمة وخطط الإعمار استوت على النار. المشكلة الحقيقية اليوم هي أن السيد المالكي لا يريد التسليم بأن ما يجري اليوم أشبه بكوميديا سوداء لا تنفع معها خطب وردية وثورية، تطمئن الناس بان الحاضر زاهر والمستقبل أجمل، ولعل هذه العشوائية والارتجالية هي الخطر الأكبر الذي يهددنا الآن، وهي التي من شأنها أن تسهم في اتساع الفجوة بين الشعب المغلوب على أمره وبين من يديرون البلد بالشعارات، و عليه فإن المطلوب اليوم هو أن يضع رئيس الوزراء نظرية سايكس-بيكو جانبا، وان يركز على القضايا الجوهرية بشأن المستقبل بدلا من الانشغال بمعارك فرعية، بالتأكيد بعض سياسيينا يحتاجون علاجا نفسيا لأنهم تسببوا في وصولنا إلى هذا الحال.
العمود الثـامـن: "سايكس-بيكو" المالكي
نشر في: 20 أغسطس, 2011: 10:47 م