د. مهدي صالح دوّايتمتاز المدينة بخصائص عديدة تتجاوز بعدها الجغرافي المقيّد بخطوط العرض والطول، فهي تحتضن مجموعة المنظومات المجتمعية والفكرية والمادية على مر العصور، وفيها تتشكل ذاكرة الشعوب، فتصبح عالقة بشغاف القلوب لمن ينتمي إليها، وتلامس معالمها وجدانياتنا الفطرية والمكتسبة، حتى تغدو بعد تشكّل مداركنا هوية لوجودنا على هذا الكوكب. ومن تكريمها، أشارت لها كتب السماء في مضامين رسالاتها، وأشعرت ودوّنت وغنّت لها كتب الأرض بما يليق بها من صفات.
لذا ينحو العالم لكل ماهو لافت للخيال والنظر لتأكيد خصوصية الهوية الحضارية للمدن، وهذا الأمر ليس بالجديد، فما وصلنا من آثار وعجائب دنيا متنوعة لدليل على أهمية الرمز في تخليد المدن والدول والأعمال، ناهيك عن التوظيفات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لهذه المنجزات من خلال قنوات الجذب السياحي والإعلامي الذي تمارسه دول العالم سنويا"، فالتجوّل في مدينة شرقية أو غربية معاصرة، تجد فيها مايشبع الرغبات الحسية وغير الحسية، و يدفع بذاكرة السائح الذهنية والرقمية لتوثيق مايرى من مشاهدات، وهذا بحد ذاته كسب حضاري للمدن. ومنذ عقود مضت، بقيت مدننا خالية من ذلك التنوّع في الرموز الحضارية، فزيارة واحدة لمدينة عراقية قد تغني عن زيارات لما تبقّى من المدن، انه استنساخ عشوائي يبقي المدن معطلة حضاريا"، و يضعها في طريق أفولها المحتوم، فلا مبرر يجعلك تشد الرحال لها، إذ بقيت معزولة بأهلها المحليين دون تعامل فاعل مع ما حولها، و زادها انكسارا" عقود الحروب والأزمات، فخلت من وافديها الأجانب، فتعزز لونها الرمادي الأحادي. ومن مفارقات الأمور أن لمدننا ألف حكاية وحكاية بما سطّره قدماؤها من إبداعات فكرية ومادية طيلة قرون التاريخ وماقبله، مما جعل متاحف العالم تزخر بآثارها، ومن يتقصى البقاع سيجد لزقورات السومريين اثراً، ولاشنونا أطلالاً، ولبابل أزقتها القيرية، ولآشور ثيرانها المجنحة، ولسامراء مئذنتها، وللكوفة قصر إمارتها ، ولاربيل قلعتها... ، زيادة على آلاف اللقى والمجسمات الطينية والصخرية التي احتواها متحفنا المنكوب، فهل يصح استنساخ مدننا على حساب تنوع مواضيها العريقة ؟ وهل أن أخيلة أسلافنا أخصب ؟ وما يملكون من وسائل اكبر ؟ لقد أفصح الانفتاح المرئي على تجارب العالم عن ضرورة الإسراع بإحياء مدننا نوعيا" من خلال توظيف خصائصها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، لتصبح لكل مدينة لون مميز يأخذ بأخيلة من يزورها لفهم مكنوناتها، فسيل المرئيات الرقمية - عالية التقانة - أتاح للجميع التمتع بجولات مرئية مذهلة لمدن العالم، وهي تزهو بمكاسبها العمرانية وتعايشها المنظّم مع الطبيعة، وهذا الانفتاح شكّل عنصر ضغط إضافي على عاتقنا لإطلاق العنان لمدننا كي تغادر أدوارها المحلية الضيقة نحو آفاق العالمية بكل ماتحمل من مزايا. إن مانملك من مقومات قدّمت لنا فرصا" ثمينة لتخطيط مدننا وإعادة النظر بأدوارها، لاسيما وان لكل منها أسبابا" من التميّز والخصوصية، فكما أن مدنا" عظيمة تصنعها حضارات عظيمة، فان وجود مدن راقية تكون - في المحصلة - قادرة على تنمية قدرات المجتمع، وتبث في نفوس قاطنيها عوامل الثقة بالنفس والقدرة على التواصل الحضاري مع الآخرين، فوجود رمزية عالية للمدن سيكون حتما" مبعث افتخار للأجيال الحالية والقادمة، وحرصهم على تقديم الإضافات الجديدة لإعلاء شان مدنهم.وحتما" سنكسب ذوقا" رفيعا" بوجود مدن منضبطة حضاريا" لها قوانينها الناضجة وأنظمة مرورها المزدهرة وبناها التحتية العامرة، وفعالياتها الثقافية المتزاحمة، فكثيرا" ما نحرص بدقة على مراعاة الذوق حين نسافر إلى مدن العالم المتطورة، فكل المنظومات القائمة فيها تعزز وتنمي تلك المشاعر الراقية نحو تقديمنا للأفضل من السلوكيات وبأدق تفاصيلها ، فأي تفاعل راق تمنحه المدينة لنا عندما نمنحها أسرار القوة؟ إن ما نصبو إليه من سلطاتنا التشريعية والتنفيذية فيما نحن بصدده،هو التخطيط لتنفيذ مدن (خضراء عتيقة معاصرة)، خضراء بأحزمتها وشوارعها وساحاتها ومنشآتها، فما ينمي الحس الجمالي للفرد وجود المساحات الخضر وتعايشها اللحظوي مع جوارحنا، لاسيما مع وجود مصادر زاخرة بالمياه السطحية والجوفية دون الاستغناء عن منظومات الري المتطورة، فمهما علا البناء لابد من خلفيات وأماميات خضر تبرز جماليته، فقبل مايزيد على (4000) عام كانت لنا جنائن معلقة، ولاننسى الاهوار كمحميات لابد من إطلاق وتفعيل مشاريعها، فهي بيئة الحضارة الأولى تضعفها الأزمنة ولكن لا تموت. مدن عتيقة كعتق شجرة ادم ومسلة حمورابي، والنقش المسماري، وصولات فرسان الفتوحات، وشناشيل بيوتاتها، إنها دعوة لمدن برائحة التاريخ لتأصيل جذورها، ونفض الغبار عن نفائسها، لقد تغنت باريس وفيينا وسان بطرسبرغ وأمهات المدن الأخرى بموروثها الحضاري لما قبل قرون قليلة فسطعت برموزها بعيدا" عن أضواء التكنولوجيا، فما بالنا ونحن نملك جذور الحضارات الأولى ؟مدن معاصرة بتصميمها ومضمونها وانفتاحها، فالمعاصرة هي زمننا الحالي الذي ينتظر بصمتنا وعصارة أفكارنا، إنها دعوة لمدن ذات هيبة تواكب متغيرات الحياة ومتطلباتها، وهنا تكمن خصوصية المذاق والتنوع، فالدعوة ملحة لابتكار رموز وتصاميم
مذاقات المدن: الطعم المفقود
نشر في: 21 أغسطس, 2011: 05:58 م