اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > منطقة محررة: ساراييفو واستيتيك المقاومة

منطقة محررة: ساراييفو واستيتيك المقاومة

نشر في: 23 أغسطس, 2011: 06:11 م

 نجم واليلم يبق أحد أميناً للنادي القديم، إلا صمد الدين محمد ونوفيك، ليس لأنه رجل عنيد، إنما لأن الأمر بالنسبة إليه له علاقة بفلسفته للحياة، من الصعب عليه تخيل حياته دون المكان القديم، صحيح أن بقية زملائه انتقلوا إلى مكان آخر، إلى الجزء الشمالي من المدينة، الحي القديم، إلا أنه أكثرهم مواظبة على المجيء هنا، هذا هو ديدنه مع كل علاقاته القديمة، ليس بما يتعلق بهذا المكان وحسب، بل بالمدينة كلها؛ فرغم المصائب التي حلت بالناس، وبزملائه من كل الطوائف،
بالرغم من التراجيديا الشخصية التي عاشها هو ذاته، سقوط زوجته قتيلة بنار أحد القناصين، وموت ابنته الوحيدة بحادث سيارة، وهجرة معظم أفراد عائلته إلا أن القاص والروائي صمد الدين محمد ونوفيك  يشعر بأن جذوره في هذه المدينة، كلا لا يريد الذهاب إلى مكان آخر. في الحقيقة يصعب عليه الانفصال عن إنسان أو عن شيء ارتبط به أبداً، الانفصال يعني له الموت، وهنا، كلما عاد للمكان القديم، يشعر بأنه ليس الوحيد الذي لم يمت، إنما المدينة أيضاً.المكان الذي يعني لمحمد ونوفيك الكثير، والذي زارته مجموعتنا (وفد اتحاد الصحافة الألماني)، هو "نادي الكتّاب في ساراييفو"، المتكون من صالة شتوية كبيرة وحديقة خلفية جميلة ( ذكرني شخصياً بمبنى اتحاد الأدباء في بغداد قبل إطباق الكوارث على البلاد العراقية هناك)، والذي يقع على بعد عشرين متراً من فندق "الهوليدي إن" ومبنى البرلمان السابق في ساراييفو. "الهوليدي إن" الذي كان مكان الصحفيين والوفود الأجنبية إبان حرب البوسنة والهرسك، وعلى مدى سنوات حصار ساراييفو الثلاث، أعيد ترميمه الآن، على عكس مبنى البرلمان، الذي ما زال بدون ترميم، يقف شاهقاً مثل هيكل عظمي. في تلك الأيام ورغم القصف الشديد، لم يتوقف أدباء البوسنة والهرسك المقيمون في ساراييفو من اللقاء هنا في ناديهم. وفي الصالة الشتوية، حيث عشرات الصور التي تؤرخ جلساتهم تلك، أيام الحصار. نوع من العناد الإنساني، أو الجمالي كما أطلق عليه بيتر فايس في ملحمته المشهورة "أستيتيك المقاومة". الإصرار على العيش والصداقة واختراع الأفراح الصغيرة، والكتابة عن كل موضوع تريد الحرب قتله، تلك هي وسائل المقاومة التي يملكها الكتّاب في هذه الأزمان.في المكان ذاك، جلس كتّاب ومثقفو ساراييفو، يتقاسمون مائدة يأس واحدة، يكتبون ملحمة ساراييفو ضد القوميين، الغزاة واللصوص والمجرمين؛ كانوا يمثلون كل القوميات والطوائف التي تشكل بلاد البوسنة والهرسك: صرب وكروات وبوسنياك (Bosniac كما يصر البوسنيون على تسمية أنفسهم، والتي تعني ترجمتها حرفياً: بوشناق)،. ساراييفو كانت بالنسبة لهم مشروع حياة، لأنها بالنسبة لهم خلاصة بلاد البوسنة والهرسك، بلد القوميات المتعددة، وسقوطها يعني سقوط ذلك المشروع، لذلك وقف هؤلاء الكتاب إلى جانب إخوانهم بالمواطنة من سكان المدينة الذين أصروا هم الآخرون على مقاومة الغزاة والعنصريين...."أنهم ذاتهم يشكلون اليوم الحركة الأدبية "ساراييفو 99"، وانتقالهم للمكان الجديد لا يعني تخليهم عن مشروعهم الأصلي، أنه نوع من تغيير المكان"، يقول صمد الدين، ربما لأن النادي كان مكاناً رسمياً لاتحاد الكتاب الرسمي، في زمن يوغسلافيا الشيوعية، وسابقاً، كان من الصعب العثور على مكان بديل، كان عليهم الدفاع عن مشروعهم هناك، اليوم باستطاعتهم الذهاب إلى أي مكان. الشباب منهم، من فنانين ورجال مسرح وتشكيليين يزورون مقهى المتروبولس، أما هم فيجلسون عند "ملايكا"، من النادر أن يزوروا المكان السابق، وحده صمد الدين ظل أميناً لعاداته القديمة.الروح التهكمية ورواية المفارقة السوداء، وقول الحقيقة مهما كان الثمن، أموراً نسمعها أيضاً من بقية جماعة 99 من كتّاب وفنانين، من المهندس المعماري المشهور ايفان شتراوس، مروراً بالمخرج السينمائي بجار زاليكا، والقاص المشهور ميركو ماريونيفيتش، والقائمة تطول: أوزرين كيبو، وماركو فيسوفيش، نيرمينا كورسباهيج، ...وغيرهم. كل القصص التي نسمعها منهم لا تسترجع مُثلاً ماضية أو تدعي مُثلاً جديدة، أنها ببساطة تحكي القصص فقط، عن المدينة وسكانها، بعيداً عن الانتساب لطائفة أو حزب، لدين أو جماعة، فبالتالي في ساراييفو، "بيت الجثث"، كما سماها محمدينوفيك في قصته الكابوسية المدهشة "شيطان وزهرة، لم يُقتل غير الإنسان، القتلة من كل الطوائف مازالوا طليقين يمرحون بحرية.لاثة أيام من الإقامة في ساراييفو، بعد رحلة عبر البوسنة والهرسك، رأينا روح ساراييفو عبر عيون مثقفيها، رساميها، مسرحييها، معمارييها، علمائها وأساتذة جامعاتها، وسواء جلسوا في نادي الكتّاب القديم أو في مقهى المتروبولس الحديث، أو في "الفاسا مسكينا"، فإنهم يلتقون في مكان واحد، عند طاولة يأس مشتركة، لكي يعملوا من جديد على تشكيل "موديل ساراييفو الأصيل"، "حيث لا ينتمي الإنسان  إلى جماعة معينة، الإنسان هذا الذي أنهكته الحرب، وأتعبته الضغائن، ودمرته الأحقاد".  أليس ذلك ما يفعله البعض من مثقفي بغداد؟ إذن أنه أستتيك المقاومة من جديد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram