إحسان شمران الياسري لقد ورد في رواية أبو كاطع (قضية حمزة الخلف) العديد من المشاهد الناطقة التي تحكي قدرة الكاتب ودقته في وصف البيئة وشخوصها.. وكان من أجملها ذلك التقرير الذي كتبه رقيب الأمن عن حمزة الخلف.. وهو يواصل متابعة حمزة الخلف من الفندق الى الكراج..:
(2)ثم مشى في السوق، بخطوات منتظمة متأنية.. عصاه تتناوب الحركة مع ساقيه، حتى أوهمتني في البدء أنها تُستعمل تكئة، لكنني توثقت في ما بعد، أنها تمس أديم الأرض برفق، مثل منقار حمامة تلتقط الحب. وحين بلغ الشارع الفرعي المؤدي الى دائرة البريد توقف.. ثم عاود السير، وهو يُوِلي عصاه انتباهاً أكبر.. ساعتها ساورتني الشكوك بأن العصا ليست سوى مجس يختبر به باطن الأرض، بحثا عن نفق أو مخبأ لم يهتد اليه بخارطة - فما أسهل أن تخدع الخارطة في مثل هذه الأحوال. وما أصعب العثور على المعالم الصغيرة من خلال وصف الواصف- .وما أن تجاوز دائرة البريد، التي شملها بنظرة فاحصة، حتى التقى به كهل أسمر هزيل الجسم، وعلى مبعدة أمتار بادره الكهل بابتسامة وسؤال:- ما في يمينك يا حمزة؟ فرّد عليه، ملوّحاً بالعصا! - هي عصاي، أهش بها على غنم ضاعت.. وأمّا المآرب الأخرى فهي (أخرى) (بفتح الألف).. وبعد العناق الحار، سأله الكهل الهزيل ضاحكاً: - لو أصدرت الحكومة أمراً بمنع حمل العصي في المدينة، شأنها مع الأسلحة النارية، فماذا أنت فاعل ياحمزة؟ أجابه المدعو حمزة بسخرية: - لكل حادث حديث.. سوف أتدارس الأمر مع سيد وناس، الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس! وتضاحكا.. وتحدثا عن المدعو سيد وناس بود، وعبّرا عن رغبة بلقائه.. وافترقا على أمل لقاء لم يحددا زمانه ومكانه. بعد قليل من المشي الوئيد، كما وصفته آنفاً، انعطف في زقاق ضيق، تكثر فيه الحفر المليئة بالأوحال، عرفت في ما بعد أنه يدعى (عكد الأكراد). توقف عند خربة، وقرع بابها الصفيحي، فانفرج الباب عن باحة واسعة مكتظة بالغزول المنشورة، فأدركت أنه بيت حائك. لقد ضاع عليّ الكثير مما تبادلاه، ومع ذلك لابدَّ من تسجيل ما تيّسر: الحائك - وبعد.. ؟ حمزة- ونداوي الصبر بالصبر.. الحائك - فلابدَّ إذاً من الرشوة.. حمزة -.. واحد وصّفوا دوا لعيونه.. تمر خضراوي مشعوث بالدهن، يضعه على عينه لمدة ساعتين.. لكن صاحبنا بعدما أكمل عجن التمر بالدهن أكله.. وعندما لامه الحكيم أجاب: يدي استسهلت العملية.. لأن الفم أقرب من العينين.. وهكذا حالنا.. ما يقع تحت أيدينا نأكله مباشرة.. فكيف ندفع الرشوة؟! وهنا شاركتهما الحديث امرأة، لابد من أنها زوجة الحائك، تساءلت عن موضوع السمن.. وسمعت الحائك في ما بعد يقول: معلوم جنابك يا أبومطشر كل شيء مغشوش في أيامنا هذي.. وأخيراً ودَّعه الحائك وفتح له الباب، فرأيته كهلاً مربوع القامة (تفاصيل عن الدار والحائك في تقرير مُلحق) ،وكان المدعو حمزة يحمل (شفًاً) مما يستعمله الفلاحون غطاء في الصيف والشتاء، ألوانه جميلة، وبه نقوش غريبة.. طواه على شكل أسطوانة.. وبدا لي أن بداخله شيئاً ثقيلاً، فقد أمال جذعه قليلا ًحين حمله على كتفه. تبعتهُ حتى بلغ ساحة تجمع باصات الطرق الزراعية.. توجه وسط الزحام نحو باص معين، وكأن في رأسه بوصلة تهديه.. سلم على مساعد السائق، ودس في كفه الاجرة، أو شيئا آخر، ثم وضع (الشفّ) على المقعد خلف السائق مباشرة، وواصل سيره نحو الجانب الآخر من الساحة.. دار دورة كاملة، يبحث عن شيء لا أدريه، إنما الملاحظة الأولى التي سجلتها: تطلعه الدائم في هامات النخل العيط.. وأحسب أنها شواخص لمكان معين.. وقف بجوار نخلة ورفع رأسه كأنما يعد سعفها.. ولسبب ما انفرجت شفتاه، فبانت أسنانه متساوية كأسنان الحمار، مُصفّرة لكثرة التدخين. لوى عنقه فجأة فغضضتُ الطرف وتصنعتُ البحث عن هدف آخر في اتجاه مُغاير. استدار على عقبيه مزورّاً مثل غزال تشمم رائحة الصياد واتخذ سبيلاً متعرجاً، وسط الزحام، نحو عربات باعة الخس والشلغم المطبوخ، حيث يتجمهر المسافرون والعمال العائدون من أعمالهم، ويتزاحم الصبايا والأولاد على جمع أوراق الخس علفاً لمواشيهم. تحسس جيبه، حين اقترب من عربة بائع الشلغم.. تلا ذلك مباشرة تلويح من كهل قصير القامة أسود البشرة كان يقف مع المتحلقين حول عربة بائع الخس. فتوجه نحوه وهو يردد: ياهلا بسيد وناس الذي يوسوس في صدور الناس، أجابه القصير: - لقد وسوست فعلاً، وسوف تستبدل قطعة الأرض كما أخبرتك.. - ولم لا؟ هذا زمن الكلاوات! - اسمعني مرة، ودعني أوسوس نيابة عنك.. وسوف تنتهي القضية كما تريد.. سحبه من ذراعه مبعدة ثلاثة أو أربعة أمتار، فتعذر عليَّ التقاط ما دار بينهما. ورجعا قرب عربة الخس يتضاحكان. ثم دعاه القصير المدعو سيد ونّاس مع إشارة باليد نحو الخس: - ياالله.. تفضل أبو مطشر خذلك راس.. فردّ عليه: - ما بقى حيل للراس! حيذاك انفجر القصير بضحكة صاخبة، سرت عدواها الى حمزة.. وعجبتُ.. ولما ينقضِ عجبي حتى الآن، من حرارة ذلك الضحك الناشيء عن القول: - خذلك راس.. - ما بقى حيل للراس؟! وإذ تحررا من سيطرة الضحك، كرر القصير دعوته على هذا النحو: - ج
على هامش الصراحة :كل خميس ..استذكاراً لصراحة (أبو كاطع).. قضية حمزة الخلف
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 24 أغسطس, 2011: 07:39 م