فريدة النقاش بصرف النظر عن مضامين الوثيقة وما تثيره من جدل ومن اختلاف أو اتفاق مع بنودها فإن قيام عدد من المثقفين باستدعاء الأزهر للخوض في السياسة هو عين الخطر ومنبع القلق ذلك أن مؤسسة دينية تعليمية حكومية تتصدر المشهد السياسي وتصدر وثيقة سياسية تكتسب بها مشروعية ممارسة السياسة وإدخال الدين فيها وذلك على العكس من التوجهات العالمية الحديثة
التي ترى أن فصل الدين عن السياسة هو المقدمة الضرورية لبناء دولة مدنية ديمقراطية عصرية مرجعيتها مبدأ المواطنة والمواثيق والاتفاقيات الدولية التي تساوي بين البشر جميعا، وتستلهم قيمها العليا من كل الديانات السماوية وغير السماوية ومن كل الثقافات دينية وغير دينية، أي أن الديانات موجودة فيها بروحها ومثلها وإن لم يكن بنصوصها، فالنصوص الدينية هي عادة حمالة أوجه كما سبق أن قال سيدنا «علي بن أبي طالب» عن القرآن الكريم والدعوة لفصل الدين عن السياسة لا تعني بحال فصل الدين عن الحياة لأن الدين هو جزء أصيل من هذه الحياة يستحيل إبعاده عنها ومن يحاول أن يفعل ذلك سوف يكون كمن يحرث في البحر، ولكن الخطر كل الخطر يتمثل في إقحام الدين في السياسة إذ الدين ثابت ومقدس والسياسة متغيرة ودنيوية.وليس صحيحا أن الإسلام لم يعرف في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرف في الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية، لأننا إذا ما احتكمنا إلى واقع الحال في البلدان العربية والإسلامية السنية سوف نجد أن دولة مثل المملكة العربية السعودية ومنظمة مثل منظمة طالبان التي هيمنت في فترة سابقة على الحكم في أفغانستان هما دولتان دينيتان بمعنى ما، وبناء على قراءتهما النصية للشريعة الإسلامية جرى اضطهاد النساء واستعبادهن واستبعادهن، ولعل الجدل الدائر الآن في المملكة العربية السعودية حول حق المرأة في قيادة السيارة أن يكون دليلا رمزيا على اعتبارهن مواطنات من الدرجة الثانية ناهيك عن الحقوق الأكبر مثل حق الترشيح والانتخاب الذي سبق أن عرفته البشرية منذ ما يزيد على قرن من الزمان، كذلك يطلق السعوديون على الشيعة وصف «الرافضة» وتجري محاصرتهم واضطهادهم لأنهم ليسوا من «السنة» ،أما سجل طالبان في هذا السياق فهو أضل سبيلا وأشهر من أن نصفه مجددا سواء في احتقار النساء واستبعادهن من التعليم والعمل أو اضطهاد أصحاب الديانات الأخرى أو مصادرة الحريات العامة.ففي الحالتين العصريتين في كل من المملكة العربية السعودية وأفغانستان في ظل طالبان فإن التضييق على حرية التعبير والتنظيم والحريات الشخصية عامة كان ومايزال سياسة مقننة وتستمد مشروعيتها من قراءة معتمدة للنصوص الدينية.وتقف الدولة الإيرانية الحديثة شاهدا على الانتهاكات ضد حقوق الإنسان كدولة دينية شيعية ،ومن التناقضات البارزة في وثيقة الأزهر والتي كان محتما الوقوع فيها بحكم منطقها ذاته هو تأكيدها في البند الخامس على الالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية، والتمسك بالمنجزات الحضارية في العلاقات الإنسانية المتوافقة مع التقاليد السمحة للثقافة الإسلامية والعربية والمتسقة مع الخبرة الحضارية الطويلة للشعب المصري في عصوره المختلفة.. إلخ.ثم تأتي الوثيقة في البند السادس لتنص على تأكيد الحماية التامة والاحترام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات السماوية الثلاث، وضمان الممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية، أي أن الوثيقة تستبعد من حرية الاعتقاد هؤلاء المواطنين، البهائيين على سبيل المثال الذين لا ينتمون لأي من الديانات الثلاث وتحجب عنهم الحق في بناء دور عبادة لهم، وهو الحجب الذي يمتد ليشمل البوذيين والهندوس والتاويين ومن يعتنقون ديانات أخرى في جنوب السودان على سبيل المثال، هذا الجنوب الذي كان أحد أسباب انفصاله عن الوطن الأم قيام الدولة الدينية في السودان التي تميز ضد المواطنين من غير المسلمين السنة، وباسم الشريعة الإسلامية انتهكت الحكومات المتعاقبة في السودان كل الحريات العامة دون استثناء مما أدى ضمن عوامل أخرى إلى تقسيم البلاد.لكل هذه الأسباب أخشى أن يكون في استدعاء الأزهر إلى العمل السياسي دعوة ضمنية لدولة دينية من نوع جديد قد تكون متسامحة وسطية - كما يقال - لكنها تميز ضد البشر على أساس معتقداتهم وهي الطامة الكبرى.
وثيقـة الأزهـر
نشر في: 24 أغسطس, 2011: 07:41 م