عبد الخالق كيطانأكثر المتشائمين مثل أكثر المتفائلين في هذي البلاد لم يكونوا يتوقعون أن تكون بغداد درجة قياس بهذه السرعة، فيرد اسمها في نشرات الأخبار محالاً على عواصم أخرى، وليس على قصص الموت فيها.عندما نزل شباب تونس إلى الشوارع قال رموزهم: تونس لن تكون بغداد جديدة. ثم تكرر الأمر مع شباب الثورة المصرية: القاهرة لن تكون بغداد جيدة، وتكرر الأمر في صنعاء، دمشق، طرابلس... الخ. كل هذه العواصم لا تريد أن تكون بغداد جديدة، ولكن المخيب للآمال بالنسبة لمحللي تلك العواصم وشبانها على حد سواء أنهم يستنسخون تجربة بغداد بقضّها وقضيضها، بالرغم من أن السواعد التي أطاحت بالديكتاتور العراقي هي سواعد أجنبية، والسواعد التي أطاحت، وتطيح، بالديكتاتوريات العربية هي سواعد وطنية.
وفي جردة حساب سريعة نكتشف الآتي: - يبدأ الشباب بإصدار قوائم "العار"، أو القوائم "السوداء".. ألخ، وتضم هذه القوائم نخبة المجتمع الذين كانوا يتعاونون مع النظام الديكتاتوري. أبرز ضحايا هذه القوائم عادة هم: الأدباء، الفنانون، والمثقفون بشكل عام.- يبدأ الشباب بالحديث عن ضرورة تقديم رموز النظام الديكتاتوري للعدالة، وبالرغم من أن الديكتاتور ما زال يمسك بالسلطة، فإن حديث الشباب لا ينقطع عن ضرورة تقديمه، وأقاربه ومعارفه وأذرعه وأعوانه إلى السلطة بلا استثناء. وفي حال سقط الديكتاتور، فإن الشباب لا يستمع إلى الآراء التي تقول بضرورة التسامح والعفو ولو عن "بعض" من قادة العهد البائد. ينزل الشباب إلى الساحات العامة مطالباً بالقصاص، وهو مستعد، اي الشباب الثائر، لعمل أي شيء من أجل محاكمة رموز المرحلة السابقة، بل واعتبار دعاة "التسامح" مع رموز العهد البائد مجرد خونة، أو جبناء، أو ذيول.- وفي اللحظات التي تسبق سقوط النظام الديكتاتوري، وتلك التي تستمر مع لحظة السقوط، وفي لحظات ما بعد السقوط، يسود هرج ومرج، وتخرج جماعات الجريمة المنظّمة، تكثر مجاميع التسليب والترهيب، تكسر المحال، وتسرق الدوائر والمؤسسات، وتنهب المعامل والمصانع.. تبث الفضائيات صور القتلى، فيقول النظام، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: هذا هو ما تريدونه بعد الأمن والأمان الذي وفرته لكم. وعندما يسقط ذاك النظام تبدأ أصوات قادة الثورة بمطالبة الناس، ومن تبقى من عناصر الشرطة، بأن يحموا الأملاك العامة والخاصة، ولكن دورة العنف وموجة السلب والنهب تستمر لفترة لابد منها.- وفي اللحظات التي تتبع سقوط النظام الديكتاتوري ينشط الإعلام الحر، تكثر الصحف، وتنتشر فضائيات تبث من أماكن لا حصر لها، وكلها تتحدث بلغة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والمساواة.. وبالطبع فأغلب تلك الصحف والفضائيات مجهولة التمويل، في تلك اللحظة تحديداً، ومجهولة الأهداف. ما يحصل هو فوضى إعلامية بغطاء من حرية كانت مفقودة.- وتبدأ موجة من الاغتيالات. الانفلات الأمني. يتعرض قادة أحزاب معروفين إلى القتل أو المضايقة. تبدأ جهات مجهولة بشراء الأسلحة وتخزينها. وتبدأ نشرات الأخبار تتحدث عن "سيارات مفخخة، اسلحة كاتمة للصوت، تمويل من الخارج، عملاء لهذا البلد أو ذاك... الخ"... ويبدأ الإعلام، الذي شهد شهوراً من حرية الفوضى، أو فوضى الحرية، بالحديث المرمّز عن تلك الظواهر الجديدة.. - ويبدأ فصل جديد: ينتشر الحجاب بين الفتيات اللواتي كنّ وإلى عهد قريب غير محجبات. جهات مجهولة تهاجم محلات بيع الخمور. أحاديث خافتة تتحول إلى عنف طائفي. فساد يضرب ارجاء الدولة. خيبة أمل عامة بالتغيير. نكوص وحلم بالعودة إلى زمن الديكتاتور. هذيان في الشوارع.- ثم تصعد طبقة إلى السلطة لم يكن لها أي دور في صنع الأحداث. إنهم نهازو الفرص الذين يجيدون ركوب الأمواج. هؤلاء يمسكون بالسلطة بفكين من حديد. فتتهاوى الأحلام، ويضحكون على الناس بسلسلة لا تنتهي من الشعارات. يحدث ذلك في كل يوم، نستلهمه من تلك البلاد التي يسمونها العراق، ومع ذلك، فمانشيتات الصحف الكبرى في بلادنا تقول: عاصمتنا لن تكون بغداد أخرى!
عين: لن تكون بغداد ثانية
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 24 أغسطس, 2011: 09:03 م