اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > تلك المدينة.. الفيصلية

تلك المدينة.. الفيصلية

نشر في: 28 أغسطس, 2011: 04:59 م

جاسم العايف إلى فيصل لعيبي"الإنسان يذكر بقدر ما يتخيل، وينشد إلى الزمان بقدر ما يلازم المكان، والمخيلة تغزو الذاكرة وتمدها بالصور وتملأ الزمان بالممكن والمختلف، وهكذا، يتأرجح الإنسان بين أزمنته وأمكنته،بين ذكرياته وأخيلته، بين الوعي واللاوعي."علي حرب
كما لو أنّها هِبة من هبات ملك نُسِبت المدينة ،إلى فيصل الثاني آخر ملوك  التاج العراقي، الذي اخترعه "البريطانيّون". فكانت "الفيصليّة" مدينة أعاجيب، لفارّين من فقر الحياة في القرى المنطفئة البعيدة إلى أضواء مدن الخمسينيّات التي قُدِّر لها أن تعيش بإيقاع حضارة متطلّعة توفر ضرورات الحياة؛ العمل ومنافعه، وإغراءات المدنيّة بما فيها من مباهج ومتع وخدمات. وعلى أرض واطئة باتساع، غير بعيدة عن الفيصلية، مدينتي، استقرّ نازحون آخرون اختلطوا ببعضهم في المكان الذي شَخَصَ بغير قليل من العناء وسرعان ما أعلن شهرتَه، هو الآخر، كهِبة من هِبات الأميرة (عالية) أم الملك فيصل الثاني، وهكذا استوى على الأرض متفرّداً بنسبته إليها فكان (العالية).وإذن فـ(الفيصلية) وجارتها (العالية)صنعتْ لهما أقدارُهما التاريخيّة اسمين بالنسب إلى سلالة ملكية شريفة، استقدمت من الحجاز ليوهب إليها (العراق) كله، وكلا الاسمين ينطوي على شيء من التعويض المعنوي الذي لا بدّ من أنّه أبهج القاطنين في تينك المدينتيْن اللتين عزلتهما حضارة البصرة، آنذاك، في مكانيْن للتنقية والخضوع للتأهيل والاندماج أخيراً بثقافتها. اتسعت الفيصليّة  وتناسلت وانشطرت،غرباً، إلى أحياء مستقلة منها الموفقية بشطريْها المستأجرة أراضي دوره، والمملوكة من قبل شركة نفط البصرة، والأصمعي، أو شعبياً "الومبي" بقسميْه "الجديد والقديم". "الومبي" حمل اسم الشركة  الأجنبية التي تقاولت على بناء مساكنه المخصصة لأرباب الدرجات الوظيفيّة الدنيا من منتسبي المملكة العراقية، ضمن خطة مجلس الإعمار الملكي. بعيداً بقليل عن مكينة الثلج في أطراف "الفيصلية"، و قبالة أقدم أمكنة لواء البصرة،حينذاك، " صبخة العرب" ، مأوى الأسلاف والعمومة والخؤولة ،النازحين، من أقصى أرياف الغراف والشطرة والرفاعي وسوق الشيوخ وقلعة سكر والمجر الكبير، والميمونة، والعدل ، والأعويج، والاهوار، ليستوطنوا"الصبخة " في بيوت طينية ، وتجمعات سكنية عشوائية، ابتنوها بأنفسهم وبقدراتهم الذاتية والجماعية ، و كيف ما اتفق لهم ذلك، قبل زمن العثمانيين القساة وخلاله ، وكذلك بعد اندحارهم على يد البريطانيين. ونزوح سكنة "الصبخة " يعود لأسباب شتى، منها، الهروب من ثأر يقتضي دفعه دماً مسفوحاً،أو لا بد من  تسوية له ، والجوع و الجور والظلم ، والبحث عن رزق حلال في مدينة أخرى، مع أنهم لا يملكون ،عند نزوحهم الاضطراري، مهارات مميزة ،غير أجسادهم ، وقدراتهم على تحمل أشق الأعمال ، وكرامتهم التي لا يمكن لأي كان ، ومهما يكن مركزه المساس بها، أو جرحها تحت أي ظرف ، معبأين بالطيبة والصبر ، والأُخوة الجماعية، بشكل لا قرين له، إنهم غرباء المدينة التي استوطنوها اضطراراً ،وهم الـ:"وقورون/كآلهة من سومر/تحف بهم النراجيل كالجواري/في مقاهي المدينة/منحنون أبداً/ على ميّت أو قتيل/عاقدين العباءات عند الرُكَب/في حديث لا ينقطع من الصمت/والنواح/بيوتهم قد تخلو من الخبز/ ولكنَّها نادراً ما تخلو من الضيوف/هؤلاء/ آلهة سومر وأحفادُها/المتوجون بالسنابل/ذوو الأفواه المفتوحة أبداً/المغلقة أبداً/العاوية في صحراء من الأبدية".عبد الكريم كاصد/صبخة العرب/. آوت الفيصلية عمال بناء، وحمالين، دوارة- قبل عهد "العتاكة"الذي ازدهر خلال سنوات الحصار- وصباغي أحذية، وتمّارين يعملون خلال موسم جني التمر، ويوزعونه على عوائل "الفيصلية" بصناديق خشبيةٍ تحملها (لوريات) معامل ومكابس تمور: اصفر.. وبيت مارين.. والداود.. ومجيد سلومي.. والسعدون..وغيرهم، حيث يجري انتزاع النوى منه- في عملية تسمى بـ"التفشيك"- ليجوب ذلك التمر الـ"مفشق" ، بعد ترصيعه بالجوز والفستق، أسواق أوربا أو يرسل بطلب من ارستقراطيي البصرة، الذين اندثروا الآن، إلى مَنْ يعرفون في العالم المتحضر، هدايا بصرية-عراقية لا أجمل منها. "تُفشِّق"عوائل "الفيصلية" وأطفالها ليل ونهار التمور، حتى تتقرح الأصابع وتتلون الشفاه، ويغدو أكلها وتذوقها شيئا فشيئا مثيرا للاشمئزاز، لدرجة التقيؤ بالنسبة إليهم..وتسلّم الصناديق بشرط أن يسلّم النوى وحده.. لقاء أثمان بخسة قد تعين العوائل على تسديد شيء من ديون قديمة أو شراء حاجة ملحة أو الذهاب إلى الطبيب لمعالجة مرض مزمن. وثمة في الـ"فيصلية" فلاحون مُهجرونَ- مُهاجرونْ، ألقت بهم فيها مكرهين، مهانات ريف جنوب العراق الملكي، وإقطاعه المتسيد على الحياة والمصائر، مقهورين، قنوطين، معبئين بـ"البلهاريزيا" يئنون بحرقة عند تبلوهم الدموي الدائم، وهم يمارسون حرفاً بدائية لا تتطلب مهارات، ولم تكن أحلامهم، في الغالب، لتتخطّى أن يغد

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram