اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > العقيد فـي متاهته

العقيد فـي متاهته

نشر في: 3 سبتمبر, 2011: 05:20 م

عماد حسنبعد اثنين وأربعين عاماً من حكمه المديد يجد العقيد نفسه في مواجهة ذكرياته عن نفسه والآف الصور المعلقة على جدار القصر. لم يجنح به الخيال يوماً  ليرسم صورة قريبة لما يحدث الآن في الخارج . صورة (الجرذان) الذين يهاجمون قصره بهرجهم ومرجهم وهتافاتهم وأغاني النصر التي انبثقت من أفواههم بغتة بعد أن نسوها كل تلك الأعوام الطويلة.لم يستطع العقيد، إلى هذه اللحظة، من فهم شكوى الجموع المحيطة بقصرة الشبيه بمتاهة كونية، القصر الخارج من قصص كتبها آلهة تواروا خلف متاهات حروفهم ورموزهم التي لا تعني أي شيء سوى تضليل قصصهم ذاتها.
كان الوقت فجراً وبين أغصان حديقة القصر تدور نسمات منعشة أفلتت خلسة من دخان البنادق والقذائف المتساقطة بانتظام داخل السور المنيع في (باب العزيزية). تمالك العقيد نفسه والتفت إلى مساعديه القلائل وقال لهم بما يشبه التأنيب: جرذان! مَنْ يكونوا؟ أنا قائد ثورتهم وأنا منقذهم. خرج صوته مبحوحاً جراء تعب الأيام الثلاثة الماضية ولكثرة ما صرخ في وجه جنوده وهو يأمرهم بالقتال. كان يود أن يسأل عن شكوى تلك الجموع، لكن بدا أن سؤالاً كهذا وفي هذا الوقت القصير المتبقي له لمغادرة القصر، إلى الأبد، ضرب من العبث، كما كانت حياته دائماً منذ أن لامس رأسه، للمرة الاولى، الأرض في بيت قديم في (سرت) إلى هذه اللحظات الثقيلة على نفسه.جال بنظره الحائر أروقة القصر السحري متذكراً، وإن كان بشكل سريع، كل الطائرات التي أسقطها في الماضي، كل الراقصين الذين تناثرت أشلاؤهم في الفراغ، كل المختنقين تحت أنقاض البيوت المتهدمة، كل الأبرياء الذين وضعهم سوء حظهم في أمكنة كانت الألوية الحمر تجرب فيها أسلحة تلقوها منه، كل الصرخات التي أطلقها الضحايا قبل أن يسقطوا في غياهب العوالم الأخرى، كل العظام التي هرستها قنابله التي وضعها في أيدي الجيوش السرية، كل المرتزقين والقتلة من (ابي نضال) الى (كارلوس)، كل الناس الذين اختفوا في سجونه كنجمة صبح بعد شروق لامع، كل الحفر التي خبأت جثث شعبه، كل المتفرجين على قوافل أموالهم وهي تذهب الى الغرباء، كل دباباته، كل مغامراته،كل...... لكن العقيد لم يكن ينظر الى هذا كله، كان ينظر إلى القصر الذي سيسلمه  (للجرذان) عما قريب.انطلقت مركبة العقيد باتجاه الشروق الذي بدأ يطل على المدينة المختنقة بدخان الحرائق ورائحة البارود التي يعرفها جيداً. تذكر أنه ترك كل شيء في القصر. لم يأسف على شيء مثل أسفه على صولجانه الذهبي الذي، حين يمسكه، يجعلة، بطريقة يختلط فيها السحر بالهذيان، ملك ملوك أفريقيا، الصولجان الأثير على نفسه المثقلة الآن بالألم،فهو طالما أمسكه، لساعات طويلة وفي كثير من الليالي، حين كان يشعر بالرغبة في أن يصبح ملك ملوك أفريقيا. تذكر كيف عشقه كما عشق ذات يوم بعيد، حلمه بأن يمتلك طاقية الأخفاء ليصل إلى أي مكان يريده بيسر وسرية. لكنه يدرك الآن، مثلما ندرك نحن، بأن صولجانه المحبوب لم يكن لينقذه من مصيره الذي ينطلق، في هذه اللحظة، اليه وبسرعة مركبتهالقوية.أما الشيء الآخر الذي أسف على تركه، أو نسيانه، فكانالبوم الصور للعزيزة (كوندليزا) أو ليزا كما يحلو له أن يسميها، فهو طالما أحبها في سره وافتخر بأنها، أو أسلافها، خرجوا من أفريقيا، أفريقيا الذي هو ملك ملوكها الآن. لذا وحين يشتاق إلى طلتها البهية يمسك آلبوم الصور باحدى يديه وفي الأخرى يمسك الصولجان ليؤكد لنفسه ولها أيضاً، وان كان برمزية بائسة، بأنه يمسك برقبة التاريخ الذي ساوى بين افريقيتها السالفة ومُلكه الحاضر. رأى انعكاس لمعان نياشينه الذهبية، لم يحصل عليها في قتال، على الزجاج المعتم للمركبة المدرعة التي تسابق الريح. تذكر العقيد الحزين على أشياء كثيرة لم يفعلهابحسه الساخر من كل ما حوله، ذات صباح بعيد يشابه صباحه هذا، كان تحديداً في الأول من أيلول عام 1969 . حين أنطلق الملازم معمر ولد محمد عبد السلام ابو منيار، من وحدته العسكرية المرابطة في بنغازي، نفس المدينة التي زحف منها مَنْ رموه إلى الشارع، ليحتل قصر السلام. كان الملك ولحسن الحظ غائباً حينها.ولم يجد الملازم المُؤيَد بعده وكالات استخبارية رصينة، غضاضة من إعلان جمهوريته التي مزجت بشكل مؤلم بين الفكاهة والقتل والغرائبية والغلظة.تلمس نياشينه الذهبية، كمن يطمئن على وجودها. لم يدرك بأنها لم تعد تساوي شيئاً، كشأن كل النياشين في السلم. كما لم يدرك بأن صولجانه لن يمنح من يمسكة بعده أي امتياز كما لم يمنحه هو من قبل. ربما سوى أحلامه المثقلة بالسخرية من كل شيء، بما فيها  بلده الناس الذين يعيشون فيه. أحس ببرودة الأوسمة المتدلية على بزته العسكرية، ذهب بها كما جاء قبل اثنين وأربعين عاماً. ذهب بمركبة تشابه ما جاء بها، ذهب بقلقه المشابه لقلقه حين أتى، ذهب إلى المجهول الذي اختزنه حين جاء في المرة الاولى، ذهب كما جاء، بأوهامه الكبيرة، بجنون عظمتة الذي لم يغادره يوماً، بأحلامه التي تشبه مهزلة أغريقية  ظللت حياته كلها، بالغباء الفطري الذي جعل بلاده ركاماً مذهلاً، بالخراب الذي أسبغه بكرم كبير على كل ما طال بغضه، ذهب بالتاريخ الذي جاء به، بالطريق الذي جاء منها نفسها، إلى الصدفة التي ولدت منها أسطورة الفاتح من سبتمبر، إلى الألتباس الذي جعله الأمين على وكالة العرب للقتل، تلك الوكالة التي أسسها معلمه وملهمه الذي لا يقل عنه سخرية وقسوة، عبد الناصر. ذهب، وربما إلى حفرة كالتي توارى فيها المهيب المشنوق، ذهب إلى جهنم وحدته كما جاء إلى الحياة من (

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram