نجم والي ربما هي الشهرة العالمية أو المجد الذي استطاع الحصول عليه في سنوات حياته الأخيرة، أهم كاتب أرجنتيني في القرن العشرين، ما جعلاه يبقى بمنجى من غضب القوميين المتعصبين من شركائه بالمواطنة وينأى بنفسه من العقاب. فعندما اندلعت واحدة من حروب الطراز القديم، التي رغم ذلك لم تخلُ من دماء ودموع، بين الأرجنتين وبريطانيا "العظمى"، في صراعهما من أجل السيطرة على جزر جرداء شبه مهجورة،
وباردة في جنوب المحيط الأطلسي، لم يجد الحكيم خورخه لويس بورخيس وصفاً لهذه الحرب أفضل من جملته الساخرة: بريطانيا والأرجنتين "أصلعان يتنازعان من أجل مشط"!كان يجب أن يمر أولاً أكثرمن ربع القرن، لكي يؤيد أحد كتّاب التاريخ الرسميين البريطانيين ما ذهب إليه العجوز بورخيس، ولكي ينتصر مرة أخرى الأديب على الساسة الحمقى! فالوثيقة الرسمية التي حملت عنوان "التاريخ الرسمي لحملة الفولكلاند"، التي ظهرت أخيراً (نشرت جريدة الباييس مقاطع منها)، للمؤرخ البريطاني المشهور "لورنس فريدمان"، تعيد المجد لجملة بورخيس.ما هو مثير للدهشة، كما يقول الريبورتاج الذي ظهر في الصحيفة الأكثر انتشارا في إسبانيا، هو أن فريدمان الذي يحمل لقب السير، تحدث بصراحة متناهية، ولم يأخذ بنظر الاعتبار: لا الحساسية العامة عند مواطنيه البريطانيين ولا المصالح البريطانية، إذ لم يترك مناسبة في الوثائق إلا ويؤكد فيها عبثية الحملة المذكورة التي قامت بها الليدي الحديدية: مارغريت تاتشر. جزر الفولكلاند التي تقع قريباً من سواحل المحيط الأطلسي الجنوبية، في مقاطعة "بيتاغونيا"، والتي أرسلت بريطانيا في حملتها العسكرية من أجل استرجاعها من الأرجنتين 102 بارجة حربية و29000 جندي، لم تكن ذات يوم بالنسبة لحكومة الجلالة أرضاً وطنية مقدسة يجب حمايتها إذا دعت الضرورة! إنما كانت بريطانيا تشك بشرعية ملكيتها فضلاً عن كونها شكلت عبئاً اقتصاديا، يستدعي التخلص منه، لدرجة أن رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك، مارغريت تاتشر، كانت على استعداد لتسليم مجموعة الجزر للأرجنتين في عام 1980.كما يكشف فريدمان في وثيقته التاريخية، وحسب ما نقلته صحيفة الباييس، فإن الحكومة البريطانية أجرت في ذلك الوقت محادثات سرية جداً مع الأرجنتين. وأولاً فقط عند زيارة ديبلوماسيين بريطانيين "صقور" لسكان الجزيرة الذين يبلغ عددهم 1800 مواطن، جعل المفاوضات تتعثر: "الكيلبيرس"، كما يطلق سكان الفولكلاند على أنفسهم، قرعوا أجراس الإنذار أمام هؤلاء في تلك الزيارة، ونقلوا رسالة إلى القصر الملكي، بأنهم يعرفون بأمر المحادثات السرية.على أية حال لو لم يأمر الجنرال ليوبولد كالدييري آنذاك جنوده بالهجوم على الجزر في الأول من نيسان 1982، والتي دخلوها بسرعة ومن دون إراقة دم، فإن جزر المالفين (اسم آخر يُطلق على الجزر) كانت تقريباً وبشكل لا يمكن تجنبه في يد الأرجنتين الآن: الاقتصاد الزراعي الذي يعتمد على تربية الماشية، كان يمر في أزمة، فضلاً عن الظروف الصعبة الأخرى التي كانت تعيشها الجزر: ابتداء من تقلص عدد سكان الجزيرة إلى تحول الارتباط بالبلد الأم الذي يبعد 8000 كيلومتر إلى أمر أكثر صعوبة. وفي ذلك الوقت بالذات، عندما كانت المستعمرة القديمة لم تعد تصلح للبقاء في يد بريطانيا، كما يقول فريدمان، بل تكاد أن تنتهي رسمياً، حول الانتصار العسكري الأرجنتيني السريع الأعين إلى اتجاه آخر: لتتحول الجزر فجأة إلى نموذج ومثال للفخر الوطني البريطاني ومناسبة لتمجيد الوطنية البريطانية ولاستعادة المجد الغابر للإمبراطورية التي لا تغرب الشمس عنها، على الصفحات الأولى من صحافة البوليفار البريطانية.بعد ثلاثة أيام من إنزال القوات الأرجنتينية "المكروهة" من سكان الجزر، مخرت الطلائع الأولى من سفن الأسطول العسكري البريطاني. لقد أدركت مارغريت تاتشير وبسرعة أية شعبية ستجلبها لها الحملة عسكرية في الانتخابات المقبلة. المفارقة المضحكة، أنها انتهبت فجأة إلى وجود ديكتاتور دموي يجلس على سدة الحكم في بونيس آيريس. وحسب تحليل فريدمان، فإن مارغريت تاتشير قامت بالرغم من كل شيء بمقامرة كبيرة، وليس كما يقال، إن الدوافع التي تختفي خلف الحملة، هي شجاعة تاتشر أو عناد البريطانيين.رفضت مارغريت تاتشير كل الوساطات، بما فيها الوساطة الأميركية لوزير الخارجية الأميركي، الكسندر هيغ، الذي لم يشأ أن يخسر جنرالات الأرجنتين، والذين كان يجد فيهم حلفاء مهمين في الحرب ضد الشيوعية، وبتزويد صدام حسين بالسلاح في حربه ضد إيران (لاحقاً تم الكشف عن عمليات تزويد الأرجنتين وتشيلي بالسلاح للحكومة البعثية في العراق عن طريق العملية العسكرية السرية التي حملت كود: كوندور: انظر في هذا السياق رواية "تل اللحم" ـ دار الساقي ـ 2001).الخلاصة التي يتوصل إليها فريدمان هي: أن جزر الفولكلاند وعن طريق الحملة العسكرية البريطانية، وبعد بناء مطار جديد فيها، وبعد فتح باب الاستثمارات هناك، فضلاً عن الأمل الذي يراود البريطانيين بالعثور على النفط هناك، ناهيك عن تحويل الجزر إلى مركز سياحي طبيعي، تحولت الجزر إلى مشروع بريطاني مزدهر. خطيئة الجنرال الأرجنتيني الديكتاتور غالييري، ومعه زملاؤه الجنرالات الثلاثة الآخرون، من قواد الصنوف العسكرية
منطقة محررة :عندما ينتصر الحكيم على العسكر
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 6 سبتمبر, 2011: 06:09 م