فخري كريم
قُتلَ هادي المهدي محروماً من مشاركة زملائه في تظاهرة الجمعة، وقبل أن يهتدي لمن يقدم له العون لإنقاذ أخته الوحيدة من مرض السرطان،
وهو في الحالتين: درء خطر اغتياله بغدرٍ حكومي أو إنقاذ أخته الوحيدة، لم يعوّل على الحكومة التي يُفترض أنها معنية بضمان أمن مواطنيها وصحتهم.
عدم تعويل هادي المهدي على "الحكومة الوطنية" مُبررٌ من وجهة نظره، لأنها منشغلةٌ في ما لا علاقة له بمشاغل الناس واحتياجاتهم ومعاناتهم ومصائبهم،
ولأنها غير معنية أصلاً فيما يعني الناس أو الشعب وليست مبالية بهذا ولا بأي شكلٍ. وهو كان يعرف بوعيه وتجربته وما يحيط به من أحوالٍ وظروفٍ ووقائع دامغة أن الحكومة، وهي "حكومة الشراكة الوطنية" من دون زيادةٍ أو نقصانٍ، بدليل وجود الجميع في تركيبتها، منشغلةٌ في تدبير وسائل مبتكرة للالتفاف على إرادة الشعب والإمعان في امتهان كرامته والتفنن في استغبائه وخداعه.
لم يكن هادي المهدي بحاجة إلى قرائن جديدة، تفضح النوايا المبيتة للحكومة على مواصلة قهر المواطنين وإذلالهم ودفعهم إلى متاهات اليأس والإحباط والرضوخ، لأنه عاش وقائعها بنفسه كل جمعة غضبٍ مع زملائه المتظاهرين في ساحة التحرير، وشاهد بأمِّ عينيه تعدياتٍ وبشاعاتٍ يقوم بها أزلامُ الحكومة الجُدُد من أيتام البعث وأجهزة أمن ومخابرات صدام حسين الذين أعاد تأهيلهم رئيسُ الحكومة، على مرأى من قادة الكتل وأمراء الطوائف، من دون أن يتخذوا موقفاً حازماً يضع حداً لتلك الاستباحات التي لا تختلف عمّا كان يقوم به النظام السابق في السرّ داخل الزنزانات وأقبية التعذيب.
وأدرك هادي المهدي عمقَ محنتِه وتبدّدَ آماله، وهو يعيش محنة "المعتقل الوطني"، في الأقبية المُدارة من قبل الأجهزة الأمنية المرتبطة برئيس الحكومة مباشرةً. لقد استعاد، وهو الكاتبُ والمخرجُ والممثلُ المسرحي، في تلك الأقبية بعد أن تلقى آخر الركلات من أوباشِ الأمن "الوطني" ودفع إلى زاوية من زوايا أحد تلك الأقبية، مشهداً لا يخطئُ تفاصيله مجرب.. مشهد معتقلات صدام حسين، وأساليب التعذيب فيها وشتائم أوباشها المُذلين بالجريمة، وخرج منها مهموماً وملتاعاً، وهو يداري تساؤلاته بتحفظِه الوطني، قلقاً على التجربة المستباحة بشهوة السلطة، وخوفاً من السقوط في منحدر اليأس!
لقد ردّد أمام رفاقه وأصدقائه: إنه ينعتنا بتهمة البعث، والبعث في معطفه يخرج علينا يهددنا بالويل، ويُشهر علينا سلاح الموت إذا ما تجرّأنا على شتم سيدهم الجديد..!
كان معه ثلاثة متظاهرين آخرين، اقتيدوا أمام أنظار المارة، وتعرضوا لأبشع تعذيب، ومورست ضدهم أساليب تخدش حياء الكافر، قام بها منتمون جُدُد إلى قبائل الإسلام السياسي، متلفعين بعباءاتهم بلا حياء، وقيل لأمراء الطوائف وقبائل الأحزاب الحاكمة ما جرى لهم أمام كاميرات القنوات التلفزيونية، لكن أحداً منهم لم يحركْ ساكناً، بل لم يكنْ غريباً قول البعض منهم "هل كان نظام صدام حسين يسمح لكم بالتظاهر وشتم الحكومة!؟" أو "ماذا يعني الضرب بالصوندات أو خراطيم المياه؟ أو الاعتقال لبضعة أيام؟ أو تصرف غير مسؤول لبعض العناصر سواء بالتحرش الجنسي أو الشتم البذيء؟ ثم كم شخصاً قتل في المظاهرات؟!
سكت رئيس الحكومة، مستفيداً من تواطؤ زملائه في حكومة الشراكة الوطنية، ولم يتخذ أي إجراء ضد القتلة ولا ضد المُعَذّبينَ أو قادة الأجهزة، ومات آباء وأبناء وأرامل من سقطوا في ساحات الاحتجاج بغيظهم، واستراح الشهداء في الدنيا الآخرة من البحث عن الخدمات والكهرباء وفرص العمل والبحث عن فسحة الأمل المؤجل بلا آجالٍ معروفة.
قُتلَ هادي المهدي بكاتم صوتٍ جبان، وستسجل الحكومة الجريمة، كما جريمة مقتل كامل شياع وعشرات مثله، ضد مجهول، مع أن القاتل معروف. فأركان الجريمة لا تقتصر على مطلق رصاصة الغدر، أو من زوده بها، أو المستفيد المباشر منها، أو المحرض عليها، إنهم جميعاً شركاء في الجريمة، يتقاسمها معهم مدبر البيئة السياسية التي تشكل دافعاً أقوى لارتكاب جريمة القتل.
ومن هو صانع هذه البيئة السياسية التي وضعت البلاد منذ سنة ويزيد في متاهات الفوضى السياسية والأمنية والخراب الاجتماعي والاقتصادي، وأعادت إنتاج مظاهر المصاهرة بين مافيات الجريمة المنظمة والفساد المالي والإداري وهياكل الدولة المنهوبة وأمراء الطوائف المذهبية والقبائل السياسية؟
وأين تجد مثل هذه البيئة عناصر مساعدة ومكونة أكثر فاعلية من الصراع المنفلت على الحقائب والمصالح الفئوية وكراسي السلطة المتهرئة ومتاعها، أكثر من هذا الصراع بين علاوي والمالكي؟
لكن ذلك كله لا يشكل بيّنة دامغة على مرتكبي الجريمة، وهم ليسوا فرداً ولا جماعة واحدة، إنهم كل المعنيين بنهب البلاد وإجهاض التجربة الديمقراطية التي استحالت إلى مسخ، إنها الحكومة التي تريد من هذه الجريمة إخماد المعارضة الديمقراطية وإشاعة الخوف بين صفوف الشباب والداعين والمشاركين في جُمَع الغضب والمطالبة بالإصلاح!
لكن مثل هذه الأساليب، هي مثل الخدع الصغيرة التي تسعى الحكومة إلى تمريرها على المواطنين لإجبارهم على السكوت، تارة بوسائل التخدير بالوعود، وطوراً بالعصا الغليظة، ودائماً بمواصلة خلق الأزمات وتصديرها في مختلف الاتجاهات.
إن معطف حكومة الشراكة الوطنية بات أضيق من أن يتحمل كل ما يبدو، إنه مرشحٌ للتكاثر غير المشروع، وهو معطفٌ يتحمل وزر ما يلحق بالمواطنين من تعديات وجرائم.
اليوم على الشباب المثابر في الاحتجاج في ساحة التحرير أن يرد على الجريمة بوضع باقات الزهور على نعش شهيد الديمقراطية والعراق الجديد، شهيد الداعية الوطني ضد نظام المحاصصة، شهيد النضال من أجل إعادة الاعتبار لتضحيات كل الشهداء الذين ناضلوا في سبيل دولة وطنية مدنية، دولة قانون ومؤسسات وحريات، دولة المواطنة الحرة.
على زملاء الشهيد في كل ساحات العراق وفي المهاجر أن يضعوا نعشاً رمزيا للشهيد في أي ساحة، في أي زاوية، ويقسموا بصوتٍ مسموع: إننا لن نصمت.. ولن نرضخ.. ولن نستسلم حتى نعيد الاعتبار لراية الشهيد، ونكشف قتلة هادي المهدي. وسنواصل التظاهر والاحتجاج حتى تتحقق كل مطالب الشهيد التي هي مطالبنا، مطالب شعبنا.
وأنتم تمددون نعش الشهيد تحت نصب الحرية، قبّلوه عني، وبلّغوه اعتذاري لتأخري في الاستجابة لطلبه الأخير..!
ضعوا وردة حمراء فوق نعشه باسمي، وعاهدوه على المضي من دون خوفٍ أو تردد..
سلامٌ على الشهيد وهو يوارى إلى مثواه الأخير، حراً سيداً.