علي حســينفي الوقت الذي اتصلت بي الزميلة غادة العاملي لتخبرني بصوت حزين خبر رحيل فنان الشعب محمد غني حكمت، كنت أطالع تحقيقا أجراه احد الزملاء عن تطوير شارع الرشيد وعن مكان سيوضع فيه نصب كبير للفنان الراحل. تذكرت حينها المرة الأخيرة التي شاهدت فيها محمد غني حكمت قبل أشهر يسيرُ في شوارع بغداد كنت انظر إليه وهو يفتش عن مجتمع دافئ ومكان أليف
وزمن سوي يعترف بالإنسان والضحك وحرية اللسان وشقاوة الأصحاب وترف الأمسيات، في سنواته الأخيرة تسكع محمد غني في شوارع الغربة ولم يكن يعرف لا هو ولا نحن محبيه أن النهاية ستكون في سطور قليلة اختتمت بها حياة فنان توله بعشق مدينته بغداد. حمل حكمت سنواته التي تعدت الثمانين في شوارع أحبها، اليد صلبة، الذاكرة شابة تجول في شوارع بغداد، تصطاد حكايات العراقيين وأحلامهم وقلقهم وضياعهم وبؤسهم وتشردهم، ونرى المدينة كلما طلعت علينا كهرمانته وهي تصب الزيت على رؤوس اللصوص وكلما أطلت شهرزاد بقامتها الفارعة، ونرى بغداد كلما اطل علينا محمد غني بقامته المربوعة من على شاشة التلفزيون ونشم عبقها حين يهدر صوت المتنبي مجلجلاً :على قلق كان الريح تحتيأسيرها شمالا أو جنوبا ونحس نبضها في ملامح نصبه ونرى تضاريسها في وجهه المحبب إلى النفس، فنشعر أننا إزاء شخصية حملت في جوانحها كل أفراح وأوجاع وأحزان ومسرات العراقيين.ينتمي محمد غني حكمت إلى طائفة من الفنانين الأثيرين على قلوب الناس.. فنان يتمتع بعبقرية لها طعم خاص يترك أثراً في النفس.. حين تشاهده تشعر وكأنك قرأت كتاباً ممتعاً.. فعند هذا الفنان قدرة عجيبة على تشرب الثقافة والحياة الكامنة خلف هذه الثقافة.. فعندما يقف محمد غني حكمت في مشغله يكون عقله وقلبه وأعصابه جزءاً من العمل النحتي فيعطي كل ما عنده.من بين الشخصيات التي تسحر حكمت وسحر بها الناس شخصيات ألف ليلة وليلة وقد قدمها لنا من خلال عدة نصب أبرزها كهرمانة وشهريار وشهرزاد والسندباد البحري، حيث منح هذه الشخصيات حيويتها التاريخية بشكل عكس صور هذه الحكايات مختزلا من خلال نصب أنيقة نفسه.يفاجئك وهو الشيخ الذي تخطى الثمانين بانفتاحه على كل التجارب الجديدة، متكئاً على مقولة النفري «العلم المستقر كالجهل المستقر». في الواقع، فإن هذا الفنان البارز، لم يتوقف في محطة ثابتة. لطالما خضعت تجربته لتحولات كبرى، منذ أن درس النحت في معهد الفنون الجميلة على يد جواد سليم وجد نفسه في مهرجان من النصب والتماثيل."من خلال علاقتي الخاصة بأستاذي جواد سليم تعرفت على عالم جديد هو عالم جواد". في سنواته الأخيرة انتقل حكمت إلى العالم الذي يحمل برودة المنطق وحرارة القلب، بين الحزن على حلم تهاوى والاحتجاج الصارخ على ما يكسر الحلم.. فكان يصر دوما على أن يكون في الموقف الصحيح وان يقول ما يؤمن به وان يكون صورة لفنان الشعب ومرآة العقل والإرادة، يدافع عن المبادئ النقية في معركة الحرية من دون أن يكترث لحسابات الربح والخسارة. يمزج بين الحلم والحياة.. تكون الحياة مصدر إلهامه ويكون الحلم صوت المستقبل الواعد، في أيامه الأخيرة حمل محمد غني سنواته التي تعدت الثمانين بعيدا في المنافي، ترتجف اليد وتظل الذاكرة شابة تجول في شوارع بغداد تصطاد حكايات العراقيين في الأربعينيات وأحلامهم في الخمسينيات وقلقهم في الستينيات وضياعهم في السبعينيات وبؤسهم في الثمانينيات وتشردهم في التسعينيات ونشم رائحة بغداد كلما أطلت علينا كهرمانة بقامتها الفارعة وهي تسخر من اللصوص ونشم عبقها حين ننصت إلى شهرزاد تروي حكاياتها الأخيرة من على شارع أبي نوّاس ونحسّ نبضها في ملامح الفنان الذي ظل لآخر لحظة يحلم بان يموت قريبا من مرسمه أو في زاوية من زوايا شارع المنصور الذي عشقه.ستون عاما، قضاها محمد غني حكمت في محراب النحت، يحاور الحجر، ويلهو فوق سطح الخشب العتيد كطفل أدمن غواية اللعب، وكان يأمل وهو في عباءة الثمانين أن يمسك بمطرقته ليخط أبياتا كتبها مصطفى جمال الدين في حب مدينته: بغداد ما اشتبكت عليك الأعصرُ إلاّ ذوت ووريق عمرك أخضرُمرّت بك الدنيا وصبحك مشمس ودجت عليك ووجه ليلك مقمر يعود السندباد البحري إلى مدينته المحببة بغداد وفي غروب لا يشبه غروب بغداد.. وفي لحظة تتداعى فيها الأمكنة والأزمنة، يبدأ الفنان أغنيته الحزينة الشبيهة بأغاني البحارة وهو ينظر إلى شوارع أحبها.. متسائلا أين الأماكن التي ستضم منحوتاته الجديدة، يعود السندباد ونتذكر معه أن هناك فناناً كبيرا اسمه محمد غني حكمت مات في الغربة كان يستحق منا شعبا وحكومة كل الاهتمام والوفاء والحب.
العمود الثـامـن: في غياب عاشق بغداد
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 12 سبتمبر, 2011: 11:02 م