لـــــــــن أرثــيـــــك يــــا أبـــا يـــاســــــر لطفية الدليميلن أرثيه ، لأنه خالد في منجزه الفني الفريد ، و لأنه حي في قلوب أصدقائه وعشاق فنه ولأنه امتداد لذلك النحات السومري الذي صور لنا أبطال الملاحم والأساطير السومرية ، ولأنه أوجد مدرسة عراقية للنحت تتميز بأصالتها وعراقة مرجعياتها الشعبية والأسطورية سومرية وبابلية وإسلامية ولم يتأثر بفنون نحاتين او فنانين من خارج بيئتنا الثقافية بل حفر عميقا في ذاكرتنا الشعبية والكلاسيكية وجسد لنا شخصيات طالما بهرتنا في طفولتنا وصبانا ونضجنا ، هو الشيخ الطفل الذي ما غادر طفولته العذبة ولبث محتفظا بنظرته البريئة الصافية للعالم والناس والفن والزمن ..
لن أرثي فناننا الكبير محمد غني ولن أعزي فيه الصديقة غاية الرحال رفيقة حياته وملهمة الكثير من أعماله وحافظة سرة والوفية على تراثه وذاكرته الفنية ، الرثاء يصح لمن لم يخلف وراءه أثرا يذكر به ، والرثاء يصلح حين لا تتجول في شوارع بغداد دون أن يشمخ أمامك نصب أو منحوتة تشير إليه ، فهو الذي منحنا رؤية مغايرة لشخصية المتنبي وعلمنا أن أبا نؤاس المفرط في دنيوياته هو المفكر والمتوحد الذي تصوف في حب الأرض والسماء معا ،ومحمد غني هو من أعاد لنا شهرزاد أخرى واثقة ومهيمنة لتقف في مواجهة شهريار بجلال الحكي وسلطة الأنوثة التي قهرت سلطة شهريار ودمويته و أعادته إلى إنسانيته عبر فن القص والحكي الساحر وهو شبيه سندباده صياد الأساطير وجوّاب الآفاق وهو من كشف لنا دهاء كهرمانة وحكمها الساخر على اللصوص سارقي كنوز مدينتنا ، وهو الذي منح وجه عشتار ملامح ابنته هاجر ليقول أن الاثنتين من أصل واحد ومنبت عراقي موغل الجذور في حضارتنا الرافدينية.مراراً زرته رفقة أصدقاء في مشغله بعمان ورغم مرارة حزنه وألمه على ما أصاب معشوقته بغداد إلا انه كان ينطلق ضاحكا متذرعا بالأمل وعودة العراق إلى سلام افتقده منذ عصور ، وفي كل المرات كان يحدثنا عن حلمه في إيجاد سبل عملية لإنقاذ الثقافة العراقية والنهوض بها – رمزيا في الأقل – عن طريق نصب يمثل ختما اسطوانيا مرقوما بكتابة مسمارية وقد تهاوى وانقصم من منتصفه وحوله أناس سارعوا يسندونه بسواعدهم ليحولوا دون سقوطه وانهياره .. كان يتحدث عن فكرة هذه المنحوتة كطفل سعيد مبهور بفكرته اللامعة التي جسدها بشكل ميدالية ، وكان يحلم أن تسك منها ميدالية لدعم المشاريع الثقافية العراقية أو تهدى كوسام لمثقفي العراق البارزين..محمد غني ابن الكاظمية هو احد اكبر عشاق بغداد وقد يتساوى في عشقه لها مع ابن الكاظمية عاشقها الأول الراحل الجليل شيخ بغداد حسين على محفوظ ،كلاهما كان يفيض عشقا وانجازا لعيون بغداد ومحبة أهلها وحفظا لذاكرتها وتاريخها وكلاهما كان يبكي من اجل بغداد التي خربت ، ولا يتوقف برهة عن العمل من اجل بهائها وإعادة بعض بهجة الفكر والعلم والفن الى وجهها الذي كدرته الحروب والاحتلال والطائفية وضراوة الجريمة والإرهاب ..محمد غني الفنان العالمي بامتياز الذي توزعت أعماله بين ايطاليا والبحرين ومقر اليونسكو في باريس والأردن والعراق كان تواضعه مع ابتسامته الرائقة وإنسانيته علامته الفارقة بين فناني عصره ، لم يكن متباهيا بما انجز بل كان يداعب أعماله بسعادة صبي يصوغ أحلاماً لمتعته الخاصة ثم يبث حلمه ويجسده في ساحات المدن العربية او بوابات كاتدرئيات روما او بوابة قصر اليونسكو او أبواب قصور بغداد منحوتة بحروفه التي اقتبسها من الخط المسماري . محمد غني جعل الحلم وتجسيده زادا وغذاء لروحه الطيبة التي تفيض بالمحبة والدفء الإنساني على الجميع ، كان محمد غني اكبر الحالمين الذين عرفتهم من بين فناني العراق الكبار وأكثرهم إيمانا بقوة الحلم لتمجيد الحياة الإنسانية وقيمها العليا ، وكان يعيش حلما ويضحك حلما ويتحدث أحلاماً ، ويتألم ألف حلم وحلم من اجل بغدادنا المتلاشية ، وكان وسيبقى باعث أحلامنا الطفولية من قمقمها -الطفل الوديع المستغرق في أساطيره الرافدينية الذي عاند الشيخوخة والمرض وأقام في مرابع الحلم – ولم يستسلم للشيخوخة محتفظا بنضارة الطفل القابع في أعماقه يحرضه على الجموح والإبداع حتى آخر لحظات حياته - هل قلت آخر لحظات حياته .؟؟ كلا .. لقد بدأ محمد غني حياته في مرابع الخلود لحظة فارق أرضنا وأحزان بلادنا الخربة وحلّق ف
اسـتـعـادة الأسـطـورة والـحـلـم الـذي لـن يـمـوت
نشر في: 13 سبتمبر, 2011: 07:47 م