شاكر لعيبيثمة كتاب مترجم عنوانه "معنى تاريخ الفن"، كتبه مارك روسكل وترجمه فخري خليل، وصدر عن وزارة الثقافة العراقية أولاً ثم طبعته المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ولعله من أجمل الكتب التي يقرأها المرء وأغناها وأكثرها إثارة في حقلها المخصوص.
وبالقدر الذي يهم الأمر الثقافة العربية، سأقول على الفور أن الكتاب يدلّ مباشرة على مقدار تخلفنا في هذا الحقل المذهل المسمّى "تاريخ الفن" لأنه يعلن مداورة فقرنا المعرفي وضعف معارف المتخصصين والخلل في أدواتهم الجمالية والتاريخية. فلا وجود أصلاً لمؤرخ فني عربي من طراز المؤرخين الأوربيين والأمريكيين والروس. فالمؤرخ الفني مكتمل العدة هو مثل المنقب الأثري الصبور يفتش موضوعه طبقة بعد طبقة، ومثل شرطة التحريات الجنائية تبحث في كل دليل، ومثل الديكارتي يقلب الاحتمالات شاكّا بها أو ببعضها،. وان معرفته أنسكلوبيدية حكما وبالضرورة، وإنه مثقف متحصن بالاحتمالات والرجوحية. قال لي من وجدتُ الكتاب في بيته، وهو أستاذ جامعي، ومنحني الكتاب بطيبة خاطر، بأنه قد اشتراه لكنه حالما تصفحه لم يفهم شيئا كبيرا من مادته، لأنه يتكلم، حسب ما ذكر لي بصدق، عن فنانين ولوحات لا يعرف عنها شيئاً. الكتاب يستجلب كارافاجو وتيتيان وفيلاسكيز وجورجيون ورافائيل (والسستين) وجورج دو لا تور وبوسان وفيرمير ورامبرانت.. إلخ. هذه أسماء يعرفها طلبة الثانويات في أوربا ويشاهد أعمالها المتخصصون وعامة الناس كليهما.في هذا الكتاب يعيد مارك روسكل مثلاً تصور الوضع الأصلي لسجف رافائيل المعروفة (وهو نوع من السجاد المرسوم) إلى شكلها الأول ثم يقدّم تصوُّراً عن الانتقالات الجغرافية التي قلّبتها من يدٍ ليد ومن بلاط لبلاط، ويناقش حتى كيفية موضعتها الأصلية في مكانها. في مكان آخر يعالج كيف يمكن التحقق من انتساب أعمال دو لاتور إليه رغم انه لم يوقع إلا القليل منها. كما يتوسع في قراءة أعمال جورجيون والتفريق بينها وبين أعمال مساعديه أو من عمل معه لانجاز بعض المشاريع، وهم من الفنانين الذين سيصيرون من كبار الرسامين الإيطاليين، خاصة تيتيان. لقد اقتنص على سبيل الدليل عنصرا أساسيا هو خصوصية رسمه المنظر الطبيعي. وبطبيعة الحال هناك مرجعياته المطبوعة النادرة الضاربة في القرنين السادس عشر والسابع عشر وسجلات الكنيسة وعقود العمل المتعلقة بالأجور الموقَّعة من طرف الفنانين، مثلما العودة إلى الأشعة السينية في فحص الخلفيات الأصلية لبعض اللوحات والمقارنات التفصيلية للأسلوب والتلوين، وما إلى ذلك. يا للمتعة في قراءة هذا العمل ويا للخيبة من "مؤرخينا الفنيين" وأساتذة أكاديمياتنا الناقلين من هنا وهناك. ترافقت قراءتي للكتاب مع طرفة من صنع الصديق على وجيه على الفيسبوك. فقد وضع عملاً لبيكاسو، لا يشك بذلك المثقف العادي، زاعماً أنه من أعماله هو الشاعر العراقي والإعلامي. عندما تقرأ التعليقات ستصاب بالذعر، فقد صدق "ثلة" من المتصفحين العراقيين اللعبة وقاموا بتقديم مديح لمؤلفها. هنا دليل مرير على تلك الخيبة.يشير النقد التشكيلي المقروء في الصحافة الثقافية العربية ، ما عدا قلة منه، إلى نزعة إنشائية بارعة وعدم تدقيق بالمصطلح الفني والجمالي، أو غياب له. وهو دليل موضوعي على المشكل.كما أن مزاعم المتخرجين من أقسام (الآثار) في الجامعات العربية بأنهم من مؤرخي الفن، في مصر والعراق خاصة، وكتاباتهم الوصفية المنقولة، حرفيا أحيانا، بل المسروقة من الكتب الأجنبية، فهي الوجه الأكاديمي من المعضلة، لأن الأركيولوجيا لا تشكل إلا عنصرا واحدا من عناصر متعددة في جعبة المؤرخ الفني المتخصص.لا مساهمة عربية متميزة في تاريخ الفن حتى في ما يتعلق بفنون المنطقة، الفرعونية والرافدينية والإسلامية. هنا نحن لا نقوم سوى بالنقل أو السرقة. كتب الدكتور ثروة عكاشة، وهو وزير سابق، دليلاً باهراً من السهل إقامة البينة عليه.ثمة جهد آخر يتوجب القيام به في هذا الحقل المعرفي، لعل الاعتراف بالخلل هو أول الشروط لتجاوزه.
تلويحة المدى: نحن ومادة "تـــاريــــخ الــفـــن"
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 16 سبتمبر, 2011: 05:49 م