عبد الخالق كيطان مسكين من يدفعه حظّه العاثر إلى مراجعة واحدة من دوائر الدولة في صيف العراق الجهنمي. فالروتين القاتل له بالمرصاد، ويكمله بالعادة موظفون يتبخترون أمام المراجعين كأنهم ملائكة، ويحيط بهم حشد من العاملين في مكاتب الاستنساخ الذين يقومون بعملهم بهمّة لا يوازيها سوى همّة قبض المقسوم من المال!
ولكن ماذا يفعل المواطن؟ إنه محشور بين دوامة الروتين وتذمّر الموظفين. والمواطن أينما يذهب يواجهه سؤال لا مفرّ منه: أين الوثائق الرباعية ؟ والوثائق الرباعية هي: هوية الأحوال المدنية، شهادة الجنسية، بطاقة السكن والبطاقة التموينية. ولاستخراج أية وثيقة من هذه الوثائق يلزمك أن تتحلى بشجاعة هرقل وصبر أيوب وحكمة أحيقار.في آخر مراجعة لي تعمّق عندي أحساس بالأسى على هذي البلاد التي يكون فيها استخراج شهادة الجنسية أشبه بولادة. لقد صفت مكاتب الضباط في ممر، وعلى المواطنين أن يراجعوا الضباط المعنيين هؤلاء من الشباك. والشبابيك في ممرّ طويل يحدّه سياج عال، الممرّ أضيق من أن تتصوره، يضجّ بحركة المواطنين الكثر. مكيفات الهواء تنفث ناراً جهة المواطنين، فوجوهها داخل مكاتب الضباط والضباط لا يقومون سوى بفحص أوراقك ووضع تواقيعهم عليها، ليحيلونك إلى مكتب آخر. ومن مكتب إلى آخر تمضي نحو ثلاث ساعات متنقلاً في جحيم حقيقي ينمرد فيه الأطفال وتكثر الشجارات بين المواطنين الذين يتعاظم منسوب الغضب في داخلهم من هذا الروتين القاتل فلا يجدون وسيلة لتفريغه إلا فيما بينهم لأن واحداً منهم مدّ رأسه قبل الآخر. النساء، كما يشاع، أوفر حظاً من غيرهنّ في الوصول إلى شبابيك السادة الضباط. ولكن الحقيقة أن أزواجهن اكتشفوا ذلك فبدأوا يزجون بهن في الجحيم طمعاً في الوصول إلى سرعة انجاز المعاملة، والنتيجة في تحوّل خطّي الرجال والنساء إلى عذاب يشبه عذاب الدجاج في سيخ الشواء!وتحاول أن تسأل في الدائرة: لماذا هذا الروتين؟ فلا تجد إجابة. كل واحد يرمي عبء الإجابة على غيره. فالضباط في هذا المكان محكومون باللوائح والتعليمات. قد تصادف ضابطاً (ابن حلال) يقوم بإنهاء عذابك بجرة قلم، ولكن الثابت أنك لا تصادف غير "براغي" الروتين في كل المكاتب التي تمرّ عليها. ولأن الدوائر التي تمنح هذه الوثائق تابعة على العموم إلى وزارة الداخلية، فإن أي احتكاك بين المواطن والمنتسبين معناه الحكم بعذاب لا نهائي للمواطن. القصة باختصار تتمثل في: عدم الثقة با لمواطن، وضعف في استخدام المنظومات العا لمية في انجاز المعاملات. فجهاز كومبيوتر واحد في دائرة من هذا النوع كفيل باختصار عمل عشرة موظفين لا يفعلون أكثر من التحديق في أوراقك والتوقيع عليها. ولكن من الذي يقرّر استيراد هذا الجهاز وإنهاء معاملات الناس؟ ومن الذي يوفر لعشرات الموظفين والموظفات فرص عمل إذا ما وصل السيد الكومبيوتر؟ وبين هذا وذاك فإن المواطن مطالب في كل لحظة أن يبرز وثائقه الرباعية أينما حلّ.
عين :دوائر أم معتقلات؟
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 20 سبتمبر, 2011: 08:36 م