شاكر لعيبي1-3ثلاثة تحفظات منهجية يتوجب قولها قبل الخوض في موضوع صعب كهذا. الأول:يتعلق بالقيمة الكبيرة التي صارت "شعبية" لبيكاسو والتي تجعل العودة إليه، وإعادة قراءته كأنها مساس بقيمة لا تُناقش، بل معالجة غير مستحبة لأيقونة تشكيلية ثابتة في القرن العشرين، خاصة إذا طرحت تساؤلات لا تطمئن للأفكار الشائعة.
يترافق مع هذا أن حساد بيكاسو كانوا على الدوام من الكثرة بمكان عالميا، وقد ضربوا خبط عشواء أحياناً بسبب الغيرة من تفوقه البلاستيكي وتجدده الدائب وتحولاته المثيرة. وفي هذا الإطار مَنحَتْ شعبيةُ بيكاسو قِيَمَهُ لجميع الثقافات والشعوب والجماليات التي ما انفكت تفتش فيه عن شيء منها. هكذا وجدنا نقاداً من أمريكا اللاتينية يعزون تفاصيل بعض أعماله لمنحوتات أمريكية لاتينية، وعرب يعتقدون أنه من أصول عربية، وغير ذلك مما يدل على عالمية وعمق الهموم التي خوَّض بها.الثاني:يتعلق بالثقافات والجماليات الهامشية في العالم التي لا مكان تقريبا لها في المراكز الثقافية للسرديات الكبرى (أو ماورائيات السرد). وإذا ما قيل أن التاريخ يكتبه المنتصرون، نستطيع القول بنوع من الثقة أن تاريخ الفن يكتبه المنتصرون أيضاً. لقد أفاد فنانو السرديات الكبرى دائما من الجماليات الهامشية أو المنسية وفنون الشعوب المستعمرة، وأحيانا نهبوهاـ تماماً كما نُهبت آثارها، دون أن تمنح تلك الجماليات لوقت طويل إلا مكانة فلكلورية أو فن المواطن الأصلي (الأهلي، ابن البلد indigène، native). نتذكر مربع ماليفليتش المأخوذ من الصوفية الصينية، وتعريف نقطة كاندنيسكي المستلهم حرفياً من الهندسة والرياضيات العربية الإسلامية وغير ذلك. لقد أفادوا من جهل مواطنيهم بثقافة الآخر وغياب المعنيين أنفسهم في لحظة معينة، وهو ما يجعل الأمر قريبا من التحايل خاصة في بعض الحالات. هناك شيء لا هو من هذا ولا من ذاك في حالة بيكاسو، لأن وضعه بصفته أندلسياً من مالقة، قريبا للغاية ليس فقط من فن المستعربين Mozarabe إنما من الفن الإسلامي في نموذجه الأندلسي، وعدم إشارته لذلك أو إلا بشكل جد عابر، يبدو وكأنه يستهدف طمر إرث ثقافي قديم كان في ما سبق متقدما لكنه صار، في اللحظة التي تألق الفنان بها في القرن العشرين، موسوماً بالتخلف والرجعية والغياب. لقد كتب بيكاسو تاريخه الفني وفق ما يودّ بصفته منتصراً.الثالث: يتعلق بالوسيلة الموضوعية قدر الإمكان التي نتجاوز فيها مشكلتي القيمة الاستثنائية الشعبية لبيكاسو التي تمنع تقريباً إعادة قراءة بعض أعماله، أو مراجعة بعض فتراته، ثم الكيفية التي تستعاد الثقة فيها أثناء قراءة العناصر التي لا يود بعض الفنانين إظهارها للعلن لسبب من الأسباب. في الحالة الأولى سنضع بيكاسو في مواجهة ماتيس المُعترِف صراحة بمرجعياته، وفي الثانية سنضعه في مواجهة مواطنيه الذين اكتشفوا عودته إلى فن المستعربين واستلهامه منها دون أي إشارة من طرفه. أعترف في البدء أن الأصل الأول الذي استثار هذا التأمل يقع في أمرين:الأول: لا يخص بيكاسو مباشرة، وهو تتبع التأثرات الصوفية والروحانية الشرقية، الإسلامية خاصة لدى فنانين اعترفوا بدرجات متفاوتة بها، مثل ماتيس، كاندينسكي، ماليفيتش وبول كليه ومارك توبي وهنري ميشو وأحيانا كثيرة مارك روتكو. وكان الموضوع محور محاضراتي، لسنتين اثنتين، أمام طلبة الماجستير في المعهد العالي للفنون والحرف بقابس، جنوب تونس. في لحظة من لحظات ذلك الدرس برزت فجأة أثناء تكبيري في جهاز الكومبيوتر لوحة لبيكاسو أثار تفصيل فيها انتباهي، هي (جاكلين بزيّ تركي Jacqueline en costume turc 1955) التي خيّل لي بأني أجد شبهاً كافياً مع الكتابة العربية في غطاء الرأس، بل كتابة تقلد الخط الكوفي (بسودو pseudo-cufique). مهما قلَّبنا أمر هذه "النقشة" فلعلنا لن نتوصّل إلى مطابقتها بالأشكال الزخرفية المؤسلبة، إنما بالكتابة غالبا. هل كان بيكاسو على دراية (بصرية) كافية بالكتابة العربية وإنْ لم يعرف الكلام بها. في اللوحة تقع بالطبع مهارات بيكاسو المهيمن على فنون الرسم التقليدية وسيطرته المعروفة في رسم الشكل البشري والوجوه ونقل تعبيراتها مع حضور نزوع زخرفي – تلويني يجد له في هذه اللوحة مكانا مناسباً.
تلويحة المدى: بيكاسو.. والفن المسيحي الأندلسي المستعرب
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 23 سبتمبر, 2011: 08:20 م