د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي* وهذا الذهول المصطبغ بالمتعة ، ينبع أساسا من التلاعب المرح والمفاجئ الذي يحرص المعمار على أن يكون جزءا من "لعبته" التكوينية. في هذا الصدد كتبت مرة، عن عمارة مبنى البرلمان ".. فالمبنى الذي اكتمل في عام 1960،
يتكون أساسا من كتلة ممتدة أفقياً بأبعاد 80×200 متر متخذة شكلاً مستطيلاً منتظماً في مسقطها. شغلت فضاءات البهو الرئيس وغرف النواب وقاعة الصحافة وغير ذلك من الاحياز الخدمية الأخرى. شغلت جميعها كتلة هذا البلوك المؤلف من طابقين. بالاضافة الى ذلك فإن جزءاً من فضاءات هذه الكتلة شغله ايضاً قسما قاعتي النواب والشيوخ. وقد تم إبراز تسقيف هاتين القاعتين عن سطح مستوى الكتلة الاساسية. لم يكن هناك أي اختلاف جوهري بين تلك القاعتين: لا من وجهة النظر الوظيفية، ولا من ناحية الأبعاد، كما ان كليهما يخدمان غاية متماثلة، وهما متشابهان في هيئة مسقطهما.على ان الهاجس التعبيري والتوق لحضور هذا الهاجس بصورة لافتة، دفعا المعمار إلى تسقيفهما بشكل مختلف، فتم تسقيف قاعة الشيوخ على شكل قبة، في حين حصلت قاعة النواب على الهيئة ذاتها.. ولكن بالمقلوب!.""ويبدو أن الغاية المبتغاة التي وضعها المعمار لنفسه قد أدركها بوضوح. ففي تركيب فريد من نوعه بين كتلة الكونغرس المنتظمة والمبنيين المتوازيين المجاورين الخاصين بالسكرتارية والعاليين (يصل عدد طوابق كل منهما الى 27 طابقاً)، مع الإناءين الضخمين المتعاكسين الواحد للآخر. فان كل ذلك جدير بأن يخلق تأثيراً محسوساً ومدهشاً. وباسم هذا التأثير فإن نيماير يجرؤ على خرق قوانين المنطق التركيبي الإنشائي وقواعده. من وجهة نظر العمارة العقلانية، وكذلك العمارة العضوية فإن هذا الخرق يعد بمثابة ..هرطقة!". وتبدو المعالجات الحرة لمفهوم بنائية المنشأ وتكونيته Tectonics واضحة جلياً في مبنى آخر، هو مبنى القصر الجمهوري <الفارادو>، "..فيتطلع نيماير إلى إكساب مبناه نوعاً من الإثراءالتكويني والتأثير التعبيري من خلال استخدام أعمدة خارجية اتسمت هيئاتها الفريدة وغير العادية على خطوط مركبة ومتعرجة، بيد أنها تظل انسيابية، لا تخلو من جمالية آسرة.." (خالد السلطاني؛ مئة عام من عمارة الحداثة، دمشق، ، 2009 ، ص. 208- 212). يغدو المشهد البنائي وبُناته في برازيليا، موضوعاً أثيراً للفوتوغراف "رينيه بوري"، هو الذي واكب "ولادة" المدينة بلقطاته، التي أمست الآن.. "تاريخية"، منذ وصول بُناتها وحتى وقت تدشين افتتاحها في نيسان (ابريل) 1960. انه يدرك قيمة وأهمية المباني والبناة، ولهذا حرص سواء بلقطاته في الأسود والأبيض، أم الملون، أن يعكس ذلك الاهتمام بلغة فنية عالية. في كتابه المنشور، ثمة صور كثيرة معبرة. لكني أجد في بعض لقطاتها تمثيلاً لحكايا بناة تلك المدينة، الذين تحدث عنهم ،مرة، اوسكار نيماير، بتعاطف وبامتنان، من أنهم عاشوا معاً كرفاق وكأصدقاء أثناء تعمير المدينة، وبأنهم جميعاً عمالاً ومهندسين وإداريين، يفتخرون بعملهم، وبتعاضد بعضهم بعضاً. لكن هذا الشعور، كما يقول نيماير نفسه، سوف يتغير عندما تتأهل المدينة بسكانها المختلفين، الحاملين معهم مشاكل المجتمع، وتناقضاته الطبقية. في لقطة معبرة، يسعى "رينيه بوري" إلى تأكيد كلام نيماير والإشادة بخشيته معاً، فيظهر في لقطته، احد العمال مع عائلته، انه واحد من نيف وعشرين ألف عامل وعاملة، ساهموا جميعا في تشييد المدينة. وهو يقف مع زوجته وأربعة من بنيه، تحت الأقواس الرشيقة والمتفردة في هيئتها لمبنى الحكومة ، يشرح لهم ،بافتخار، نتيجة عمله الباهر وعمل رفاقه العمال والمهندسين. انه يبدو، وكأنه "رب هذا البيت"، واعياً تماما طبيعة الفوارق بينه وبين من سوف يشغل "مبناه" لاحقاً!. وفي لقطة أخرى، "يصطاد" المصور الفوتوغرافي البارع، لحظة افتتاح المدينة، من قبل رئيس الجمهورية " جوسيلينو كويبجيك"، هو الذي يعود له الفضل في تحقيق مقترح بناء "العاصمة الجديدة"، وهو الذي واكب أعمال تخطيطها وتصميمها، وتابع أمور تشيدها بنفسه. وتبين الصورة الملتقطة من الأعلى الرئيس وهو يسير، بمفرده، نحو المنصة، التي منها سيعلن تدشين حفل افتتاح العاصمة البرازيلية الجديدة، أمام جمهور محتشد بلغ عدده اكثرمن 200000 ضيف، بضمنهم الذين شاركوا في بناء العاصمة. ويظهر الرئيس، وهو يلوح بيديه للجمهور، وهو على هيئة صورة ظلية "سيلويت" Silhouette سوداء على أرضية مرمرية بيضاء، يزيدها بياضاً (وتضاداً أيضا) كتلة الجمهور المحتشدة الداكنة المحيطة بالمنصة. وقد استطاع المصور أن يوظف التضاد الذي خلقه، لجهة تأكيد أهمية حضور رموز لقطته، وشخوصها الأساسيين: الرئيس، والجمهور، واقع المدينة المليء بأبنيتها الممّيزة. جاعلا من ذلك كله، مفردات لتكوين لقطة فوتوغرافية، مثلما هي معبر
صبـاح الخيـر.. أيتهـا العمـارة!
نشر في: 27 سبتمبر, 2011: 06:17 م