1 - 2 أوس عز الدين عباس في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ،تنبأ عدد كبير من كبار الفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين في أوروبا بأن الدين سوف يختفي تماما من حياة البشر، إلا إذا أدخلت عليه تعديلات تتناول بعض تعاليمه وأحكامه وتصوراته عن الإنسان وعلاقته بالكون، بحيث يتلاءم مع التغيرات المستمرة في أساليب التفكير وأنماط الحياة الحديثة ،وتقدم وازدهار التفكير العلمي، ومع الاتجاهات الجديدة الحالية والتي أخذت تفرض نفسها بقوة كنتيجة طبيعية للأوضاع المتغيرة في المجتمع الغربي بوجه عام .
لقد ازداد اتساع نطاق حركات التشكيك في جدوى الدين وفاعلية الدور الذي يستطيع أن يقوم به في عصر تحكمه نتائج البحوث العلمية الدقيقة والإنجازات التكنولوجية المذهلة ،وخاصة في مجال الهندسة الوراثية وارتياد الفضاء ،والتي أثارت كثيرا من التساؤلات حول بعض المسلمات الدينية الراسخة واعتبارها في نظر الكثيرين من العلماء مجرد أوهام وأمورا لاعقلانية ،كما حدث مثلا بالنسبة لفكرة الخلق بعد ظهور نظرية ((داروين)) التطورية ،ثم أخيرا بعد اكتشاف الشفرة الوراثية وإمكان تطبيق عملية الاستنساخ على البشر وتغيير كثير من المقومات المتصلة بطبيعة الفرد وسلوكياته والتحكم في مسيرة التطور البشري ،وكانت مثل هذه الشكوك قد أثيرت وعلى نطاق واسع في سلسلة المحاضرات الشهيرة والتي قدمتها بالإذاعة البريطانية في خمسينيات القرن الماضي أستاذة الفلسفة (( مارجريت نايت )) تحت عنوان رئيسي هو (( أخلاق بغير دين )) ،والتي عرضت فيها وجهة نظرها حول تراجع الدين والأخلاق في المجتمعات الغربية الحديثة ،وإمكان قيام أخلاق وضعية تحكم الناس وتوجه سير الحياة دون الحاجة إلى الاسترشاد بالمبادئ والقواعد والأحكام الدينية والخضوع لتعاليم الدين ،وعلى الرغم من الجدل الواسع والعنيف الذي أثارته تلك المحاضرات في ذلك الوقت ،والاستنكار الواسع الذي قوبلت به ،فقد كانت في بعض أبعادها مؤشرا على فداحة الأخطار التي تهدد المجتمع نتيجة الانصراف عن الدين كمصدر للأخلاق ،ويعترف الكثيرون الآن بأن المجتمع الغربي يعيش في مرحلة يصفونها بأنها مرحلة ما بعد المسيحية ،حيث لا يرتبط معظم الناس بأي عقيدة دينية سماوية ،كما يسلم الكثيرون في أوروبا بالذات بأن كل الأديان تعاني التراجع باستثناء الإسلام الذي يشهد تمددا وانتشارا خارج الحدود الجغرافية التي ارتبط بها دائما على ما يقولون .ولكن هناك وعلى الجانب الآخر من ينكر ،بأن الدين وبالمعنى الواسع للكلمة ،والذي يشمل كل المعتقدات ،يعاني حالة الانصراف عنه بدرجة تهدد وجوده ،ويرون إن العكس هو الصحيح ،إذ الملاحظ بوجه عام إنه في الوقت الذي تسوده النزعات الوضعية في المجتمعات الغربية ،فإن الدين كمفهوم وإحساس ومشاعر لا يزال قائما في وجه كل التحديات ،وإذا كان (( نيتشه )) قد أعلن منذ أكثر من قرن عن (( موت الإله )) ،فإن ثمة حركات إحيائية قوية للدين واتجاها واضحا نحو العودة إليه في مجتمعات الغرب ذاتها ،وإذا كان (( فرويد )) قد اعتبر الدين مجرد وهم ،وإن على العالم أن يتجه بقوة نحو العلمانية ،فإن ثمة من المفكرين المعاصرين من يرى بأن الدين لا يمر بمرحلة تراجع أو انكماش تهدد وجوده ،وإن كل ما يحدث هو عملية مراجعة لإعادة تشكيل بعض الجوانب التي ترتبط بالظروف المتغيرة دون المساس بالثوابت ،وإن هذه الحركات الإحيائية تهدد العلمانية التي لا تلبي حاجات الإنسان الطبيعية مثلما يفعل الدين ،ولذلك فالدول الشيوعية السابقة تشهد الآن عودة إلى الدين الذي لم يندثر تماما في أي وقت من الأوقات أو تحت أي ظروف مناوئة ،ففي عام (( 2006 )) وبعد خمس عشرة سنة من سقوط الاتحاد السوفيتي تبين إن أربعة وثمانين بالمئة من سكان روسيا كانوا يؤمنون دائما بالله ،بينما لم يعترف سوى ستة عشر في المئة فقط بأنهم لا دينيون ،وكذلك يلاحظ إن التيارات الدينية تستحوذ الآن بطريقة متزايدة على الحكم في كثير من دول العالم بما في ذلك الولايات المتحدة ،حيث يتمتع اليمين الديني المحافظ بوجود سياسي قوي ،كما إن حركات الإحياء الديني امتدت إلى الشعوب والمجتمعات القبلية التي فقدت ديانتها الوطنية وتحولت إلى المسيحية تحت وطأة الاستعمار وتأثير الكنائس الغربية في إفريقيا بالذات وما ترتب على ذلك من ضياع الهوية الثقافية وفقدان القيم الأخلاقية الأصيلة .ويذهب بعض علماء الأنثروبولوجيا إلى إن هناك في الوقت الحالي حوالي مئة ألف ديانة وعقيدة وعبادة تتفاوت في ما بينها من حيث الحداثة والقدم ومدى الانتشار وقوة التأثير وتعقد الطقوس والممارسات أو بساطتها والارتباط بالحياة الواقعية وأحداثها أو التباعد عن الأمور الدنيوية ،وعلى الرغم من كل التغيرات وحركات التمرد على الموروث فإن ثمة ما يشير إلى وجود نزعة قوية حتى بين الشباب في العالم الغربي إلى العودة إلى الدين ،فكثير من القيم المتوارثة والتي كانت تعتبر مرجعا للسلوك بدأت تنحسر ،ولذلك يرى الكثيرون في الدين مصدرا للسلوك والأخلاق ويساعد على تماسك المجتمع .وترجع تلك النزعة إلى العودة إلى الدين من بعض الوجوه إلى الشعور بالحاجة إلى الارتباط أو الانتماء إلى شيء أكبر و أكثر دواما من الواقع المحسوس والمتغير بكل تقلباته ومفاجآته غير المحسوبة والتي لا يشعر الإنسان إزاءها بالأمان والاستقرار ،وهو شعور طبيعي وغريزي يتحقق بأفضل صورة من خلال الانتماء إلى الدين ،وهذا أمر واضح حتى في حالات الانتماء إلى ديانات غير سماوية بل وإلى ال
عولمة الدين وازدياد حركات التشكيك فيه
نشر في: 28 سبتمبر, 2011: 07:55 م