شاكر لعيبي 2-3 ذكرت أنني كنتُ أجد في غطاء الرأس، في لوحة (جاكلين بزيّ تركي) Jacqueline en costume turc 1955، شبهاً كافياً مع الكتابة العربية وليس بالأشكال الزخرفية المؤسلبة. وتساءلتُ فيما إذا كان بيكاسو على دراية (بصرية) كافية بالكتابة العربية وإنْ لم يعرف الكلام بها.
كنتُ على دراية كافية بدراسة أوستاش دو لوري Eustache de Lorey القديمة (بيكاسو والشرق الإسلامي) الصادرة عام 1932 ذات المعطيات المهمة التي لم تُؤخذ على محمل الجد. وأعلم أن دو لوري كان قد خلص إلى القول: "إسبانيّ فقط من أصول مغربية [Maures] يمكن أن يكتشف هذا الفن المفهومي عن جدارة، فهو لا يستطيع، كما لاحظ غيوم أبولونير، منع نفسه من الافتراض أنه ينحدر من مسلم بعيد، شرقي بالطبع منح نفسه (لشيطان التجريدية)" . لم يكن الأمر ليرضي قناعتي الغامضة بوجود مؤثرات عميقة غير معترف بها أبدا من طرف بيكاسو.لنقل استطراداً إن مثل تلك الكتابة المقلِّدة للعربية موجودة أيضا في عمل لجيوتو، عيد الميلاد La Nativité 1300م، حيث لا يقوم الفنان برسم زخارف معينة على ثوب العذراء فحسب إنما من دون أدنى شك يقلد الكتابة العربية pseudo-arabe. أمر مبكر سيتكرر لاحقاً في بعض أعمال عصر النهضة. نحسب أن الفارق جوهري بين جيوتو وبيكاسو، ففي حين لا يعرف ولم يزر الإيطالي بلداً يستخدم هذا الحرف، نشأ بيكاسو في قلب الثقافة الأندلسية وتشكل الثقافة العربية الإسلامية الموزارابية عنصرا جوهريا في تكوينه، وهو ما رآه أبولونير في وقت مبكر، ولم يعترف به بيكاسو بعناد.لكن النتيجة التي قد تقود ملاحظة أبولونير إليها، بالنسبة لي، هي الإمكانية الواسعة لتأثير النقش والرقش الأندلسي المباشر، الكامن في الأقل في بعض أعمال بيكاسو في فترة من الفترات. ولكي لا يكون الأمر محض إسقاط يبدو أن وضع بيكاسو في مواجهة ماتيس مفيد في هذا المقام. ففي حين أن ماتيس ذو الثقافة الفرنسية الخالصة، كان يعلن صراحاً أنه يستند إلى فن الإسلام لكي يبدع فنا وصفه (بالجمالية الزخرفية) une esthétique décorative ، لم يصرِّح بيكاسو، ذو المنشأ الأندلسي المالقي، المولود عام 1881م بأي علاقة له بهذا الفن رغم أنه قد رضعه صغيراً. لا يبدو الموقف متعلقا بالإيطيقيا فقط وإنما بالأصول والجماليات التي تسمح بتثمين وتذوق فن بيكاسو، بل بإعادة قراءة نقدية وتحليلية له، وهو أمر بالغ الأهمية.في كتابها "ماتيس وبيكاسو: صداقة في الفن" الصادر عام 1991 بطبعته الأولى، تقدّم فرانسواز جيلو التي عاشت مع بابلو بيكاسو ثماني سنوات، علاقة ماتيس وبيكاسو على نحو يشير إلى وجود مشاحنة مستمرة بينهما وإعجاب متبادل مشوب بالغيرة والمنافسة في آن واحد. تُعلن هذه المنافسة بل الغيرة عن نفسها بشكل صريح في حالة بيكاسو على وجه الخصوص. كان فارق السن عنصراً في تلك المنافسة: فقد كانت ماتيس تكبره بـ 12 سنة أتاحت له سبقًاً في النضج وفي التجديد. تتحدث جيلو عن علاقة الرجلين خلال السنوات التي عاشتها مع بيكاسو، من 1946 إلي 1954م. عندما تعرّف بيكاسو على جيلو كان عمره آنئذ 65 عامًا، وكان في قمة الشهرة كأعظم فنان غربي عرفه العالم، بينما كان ماتيس يناهز الـ 77 عامًا، وقد تحول بدوره إلى أيقونة في مدينة باريس التي كانت حينها قطب الفن الحديث العالمي.جوهر الخصومة كان يدور حول الطابع الزخرفي في أعمال ماتيس. وهو عنصر كان سيزان قبل غيره يرفضه بشدة، فقد قال مرة عن ماتيس بنبرة فيها شيء من الاحتقار: "إنه صانع صور صينية" وهي كلمة تخفي، على ما يقول هربرت ريد "رفضاً لتلك الرمزية المصطنعة، [وللعنصر الزخرفي] التي كانت بشكل أو بآخر تسم كل الفن الغربي في السنوات العشرين الأخيرة من القرن التاسع عشر".رفض بيكاسو إذن الزخم الزخرفي الحاضر في أعمال ماتيس. لكنه منذ بداية القرن العشرين لم يستطع أن يخفي حيرته أمام لوحة ماتيس الضخمة "عارية زرقاء" 1907، إذ قال: "إذا كان يريد أن يرسم امرأة، فليرسم امرأة. وإذا أراد أن يرسم تصميماً، فليرسم تصميماً. أما هذا فأمر بين الاثنين".
تلويحة المدى :بيكاسو والفن المسيحي الأندلسي المستعرب
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 30 سبتمبر, 2011: 06:12 م