شاكر الانباري من يراقب الخارطة السياسية يجد أن واحداً من أهم العناوين فيها هو ضياع المقاييس. فكل شيء يمكن أن يحدث، والرأي الذي يصدر اليوم قد يصدر نقيضه غدا، ومن الشخص ذاته التابع لهذه الكتلة أو تلك، في طبخة تجريبية، مادتها الشعب، ويصعب التكهن بمحتواها، أو بما ستؤول إليه. وغياب المقاييس جزء من الفوضى التي نعيش فيها. مشكلة مثل هذه تكمن خطورتها في انعكاسها المباشر على حياة المواطن،
لتزيدها تعقيدا، ونكدا، بعد أن ضربت رقماً قياسياً في الأزمات والتقلبات. الحياة التي فقدت سلاستها وتحولت إلى كابوس يومي في المجالات كافة. المراقب لما نعيشه يحسّ وكأنه في مسرحية عبثية، تجري في قاعة مظلمة، حيث اللص يتكشف عن مدافع عن المال العام، والنزيه يعاقب على نزاهته، والمحافظ على الأمن هو من يبتكر طرق القتل، والداعي لنبذ الطائفية والمحاصصة يصبح مستأسدا، في الواقع العملي، لفرض المحاصصة وتشغيل الماكنة الطائفية. وهكذا يمكن مد القماشة لتتسع إلى اللجان، والهيئات، والوزارات، والمؤسسات التي يفترض بها أن تكون واجهة للجميع. في الأحداث التي تجري أمامنا، كجريمة النخيب على سبيل المثال، أوشكنا أن نؤمن بأن محافظات العراق أصبحت جزرا متباعدة بعضها عن البعض الآخر، والعلاقات بينها صارت محكومة بالتوجس، والشك، وسوء الطوية، كما لو أن المعيار الوطني الذي ينبغي أن يكون موحّدا، ومرجعا، قد تلاشى منذ زمن طويل. وحدّث أيضا عن ميناء مبارك الكويتي، والتصريحات المتناقضة حوله، وهروب السجناء، والاغتيالات، والمشاريع المجهضة، والأزمات الوطنية كالكهرباء والنفط وصلاحيات المحافظات، والعلاقة بين الحكومة الاتحادية والإقليم، أو مع دول الجوار. ثمة غياب لمواصفات اسمها الوطنية العراقية، يفترض أن تجعل المسؤولين، أينما كانوا، يفكرون بمصلحة البلد كله لا مصلحة مدينة أو طائفة او دين أو قومية، إلا أن الواقع غير ذلك. والسؤال هو؛ هل توجد اليوم مواصفات، أو مقاييس، لما يسمى بالروح الوطنية؟ طبعا بعيدا عن الوطنية الإنشائية التي تعّود عليها الفرد منذ عشرات السنين، وثبت زيف كثير من عناويننا. أهم عنوان في الوطنية الجديدة هو نبذ الطائفية قولا وعملا، بحيث لن يكون هناك فرق بين مصلحة فرد في الموصل أو السماوة، تكريت أو النجف. ونظافة اليد لدى المسؤولين، فالمال العام ليس غنيمة للسرقة والإثراء، وهاجس تطوير البلد على امتداد الخارطة العراقية، وإيمان عميق، غير مأزوم، بالحريات العامة والفردية، وتشبث ببناء دولة مدنية عصرية تمتلك علاقات متوازنة مع الجميع. دولة تقفز فوق أي أجندات سرية لا تأول غاياتها إلى المصلحة العامة. كل تلك المواصفات، وغيرها الكثير، ينبغي أن تصبح يافطة في أهم المؤسسات العراقية كرئاسة الوزراء، ومجلس النواب، ومجلس القضاء الأعلى، ورئاسة الجمهورية، باعتبارها واجهات وطنية تمثل الجميع، وتتسامى على أي نزعات فئوية ومناطقية. فليس هناك سوى سفينة واحدة، يمتطيها الراعي والرعية، وتبحر في بحر متلاطم لن تهدأ عواصفه لسنوات قادمة.... وربما لعقود.
كلمات عارية :غياب المقاييس
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 30 سبتمبر, 2011: 08:55 م