لطفية الدليمي تقول بغداد: عقود من الزمن تهاوت ، سقط مستبدّ وأتى آخرون وأشرقت على ملامحي شموس وأيقنتم بالخلاص ،وسرعان ما داهمكم القنوط وتهاوى الحلم عندما أوصدَ الأفق بالمحظورات وقطعت أوصالي بالأسوار التي لم تمنع هدر دمائكم بل أهدرت الوشائج بين أبنائي وشوارعي وأحيائي ، وأعلم أنكم لا تأبهون بفرمانات الحظر والتحريم :فالحرية خمر قلوبكم والموسيقى بلسم أرواحكم سواء كانت سيمفونية لرحمانينوف أو تقاسيم على العود لسلمان شكر أو ارتجالات على الكمان لغانم حداد أو إنشاداً صوفياً ،
لا يهم في شغف الموسيقي أن يشجيك موال بغدادي أو أبوذية جنوبية أو تحلق بك فيروز أو منشد روحاني أو ترنيمة كنسية من باخ ، أبناء الحياة يداعبون الزمان بأحلام نضرة وموسيقى ويلوحون للأمل وسط دائرة الرماد ، دائرة الرماد التي تطوق مهجتي - وأنتم تهزجون باسمِ الحرية في ساحة التحرير و ساحات المدن الظامئة الى نور وماء وموسيقى.. تقول بغداد: أراكم وانا في قلب دائرتي المكتملة بغرائبها وخرابها ورعبها وأشلاء أحلامنا ، بي ظمأ للنور وظمأ للموسيقى ورشفة ماء زلال - تختضّ جوارحي وأرتوي من خفق أرواحكم، أرواحكم التي تشقى في الألم والحيف وحرمان الدهور ، وثمة إرهاب يصادر حاضركم ويعبئ الطرقات بالويل وبذور الموت ويلومكم على اعتناق العراق دون سواه، تطلقون الصيحات لاستعادة حاضركم وأنا أسيرة محنتي بالمتصارعين المتناحرين على كنوزي -فلا أملك إلا أن أزهو بأمومتي لكم يا أبنائي أبناء الحياة وأهيب بكم : الحرية سبيل نجاتكم وطريق البقاء .. تقول بغداد: تثار حولكم فتن ونيران قتل وتعبر أفقكم سحب جافّة تعِدُ بمطر وتنكث الوعد ، فتغادركم البهجة وتجفّ القلوب وتنسى الأمهات تنويمة الصغار عن طائر السند وهند وينشغلن بندب المغدورين و يتضاعف الندب كل آن في الطرقات و عند أضرحة الاولياء ،تنتحب النساء الثاكلات أو تتوارى أصواتهن في الخرس بينما تعلو بغتة بين النشيج زغرودة عرس ويندهش النخل والغيم من فرط الجنائز والأعراس والمغنين والمنشدين نشيد الحياة.تقول بغداد: فوضى الأحداث وسيول الدم لم توقف حنيني الى المقامات أو أغاني سليمة باشا أو سيتا هاكوبيان أو حسين نعمة ،أقوم من صمتي الدهري أفتح عين اللغة لأجد الرمال المتحركة تبتلع ملامحي وأيامكم فأطلق الموسيقى من ضحكة الموج في دجلة لكني لاأحسن ردع الموت عن خطاكم ، وتعلمون أن لاشيء مكتمل في الدنيا قدر اكتمالي بكم أحياء فرحين لا تعساء محرومين أو قتلى مغدورين وأرى ومعي ترون من يريد بي وبكم وبالحرية نقصاناً وأدرك جزعكم وأنا في محنتي و اتوسم فيكم بهاء يضيء الغد ومايليه وأراكم بالحرية تتسيدون على زمن البلاد. تقول بغداد: أنا المدينة العتيقة مؤبدة البهاء والمحن، وحيدة أترنح في العصف و تتصارع فوق جراحي المزمنة أهواء الساسة ومطامع الجار والغريب ، وقد كفّت أمواج الحياة السعيدة عن مراودة ضفافي ، وتلاشت أحلامكم اليانعة في دوامة نار ودخان ، أراكم ثالثة ورابعة ، تمرون ساطعين في المدى منبهرين بآيات الجمال في الفن والنساء ، أو منصتين إلى رقرقة دجلة في الغسق أو يتباعد بعضكم عن جوهره -ويقتفي وعوداً زائفة تتلاشى لحظة تحطّ على منصات الحكم وكراسي السلطة ، فلا تستبقي لكم المحنة غير تعاقب الأيام دونما ومضة حكمة تلوح في أفق، أو تضحية من أحدهم توقف انهيار البلاد.
قناديل :رسالة من بغداد إلى بنيها: بـالـحـريــة تتسيــدون على زمن البلاد
نشر في: 1 أكتوبر, 2011: 06:58 م