إحسان شمران الياسري مرت قبل أيام الذكرى الثلاثون لاستشهاد الروائي والصحفي المرحوم شمران الياسري (أبوكاطع). ويكفي أن نقرأ ما قاله عشرات النقاد عن هذه المقدرة في الرسم بالكلمات، ونسج المستحيل، لقطع المسافة بين الممكن واللاممكن في عشرة أسطر. يقول الأستاذ باقر جواد الزجاجي عن رباعية أبو كاطع: لقد ركزت الرواية الواقعية الحديثة في تناولها المفاهيم الموروثة، اهتمامها على إبراز الجوانب المتحركة "المعبرة"،
لتلك المفاهيم. فقد تحدثت عن ظاهرة المعارك التقليدية التي شهدها الريف العراقي ولا يزال يشهدها، عبر مفهوم جديد. فحادث المعركة التي دارت بين عبيد المنتاز الذي سجنه الإقطاعي وبين الفلاح الكادح في أرضه في رواية "الزناد" لم تحدث بين أبناء الفئة الواحدة، وإنما بين طرفي الصراع الطبقي في الريف، فضلا عن دوافعها الاقتصادية والعرفية البحتة. لقد شعر الفلاح بأن عبيد يصر على منعه من ري أرضه، وبالتالي يمنع عنه مورد رزقه، فضلا عن تعمده إهانته وخدش كرامته، بإطلاق رصاص بندقيته فوق رأسه، مما جعله ينتفض في وجهه قائلا: (لا راحة ولا كرامة! عليمن خايف بعد؟).ويرمي عبيد بمسحاته ويجرحه في قدمه، ويدفعه أخيرا لقتله. لقد عبّرت هذه المعركة، عن مؤشرات فنية تاريخية، منحتها بعدا إنسانيا كبيرا. فهي تشير من الناحية التاريخية إلى طبيعة الدور النضالي للفلاح العراقي في مواجهة التعسف الإقطاعي، فضلا عن المساهمة بتغيير واقعه الاقتصادي المتردي.. أما من الناحية الفنية فقد تجلت في المواقف الصادقة التي تمثلتها شخصيات المؤلف معبرة عن المعطيات البيئية، التي تتماثل مع غيرها في العالم كله، فخرجت من حيزها المحلي الضيق، المقيد بأسر التقاليد الخاصة إلى رحاب التجربة الإنسانية الواسعة ((لأن فلاحي البلاد الصغيرة، غالبا ما تجمعهم معاناة واحدة ويتعرضون لمشاكل متقاربة وبالتالي يلتقون في خندق واحد ضد قوى الاستغلال)). وان اختيار عبيد المنتاز ممثل الشيخ، الطرف المُطالَب بالثأر من قبل عشيرة الفلاح الذي قتله، لفتة فنية ذكية، استطاع تسخيرها لغاية فكرية، دخلت في حلبة الصراع الطبقي. فعندما هدد (الخّضارة) بأخذ الثأر لابنهم، لم يلتزموا بنص العرف العشائري في اختيار البديل، بل أومأوا إلى الملاّك، الشيخ سعدون بأنهم سيختارونه هو دون غيره، لكونه الباعث الحقيقي على القتل. وبذلك استطاع الكاتب أن يحوّل هذه الظاهرة من حيزها الذاتي الضيق إلى حيز أوسع، استهدف قوى الظلم متمثلة في الإقطاعي (سعدون).. فضلا عن تسجيله مواقف الفلاحين من الخضّارة في الدفاع عن حقهم داخل الريف، ومن مستغليهم، عبر المواجهة الساخنة مع الإقطاع. ولم يكتف القاص بذلك بل جعل للريف دوراً ظاهراً في مواجهة السلطة العميلة والانكليز، فعندما رحل (ناصر) مكرها عن القرية بسبب تصديه للإقطاعي فالح اشتغل عاملا في شركة النفط الانكليزية.. وحينما أعلن العمال في منطقة كاورباغي إضرابهم مطالبين بحقوق العمال وحرية تنظيمهم، واجهتهم الشركة بمعونة الشرطة، بقسوة مبالغة أودت بحياة العديد من العمال ومن بينهم العامل النقابي ناصر حسين، وجعل الروائي حسين يفخر بمواقف ابنه من الاستعمار والسلطة، ويعزّي نفسه بأخذ الثأر منهم قائلا: ((- آه يناصر.. استافوا الانكليز والشيوخ مني.. شلون أﮔدر آخذ ثارك؟ بيش آخذ ثارك؟)). ثم وهنت قواه كشمعة تذوب بصمت.. وفارق الحياة بعد أسبوعين من رؤيته أحفاده، الذين أجابوا عن تساؤله السابق عن طريقة اخذ الثأر من المستغلين على مختلف أصنافهم، إذ عقب كامل بن ناصر على أخيه فاضل قائلا: ((إن الفلاح إذا لم يحقد ولم يثر على أولئك الذين اغتصبوا لقمة عيشه، فليس سوى مستعبد رضى بعبوديته)).مما سبق يتضح لنا قدرة القاص على تحقيق الموازنة بين الحقيقة التاريخية والحقيقة الفنية، دون اللجوء إلى الافتعال أو المبالغة. وللحديث بقية.
مقالات واعمدة ارشيفعلى هامش الصراحة:الذكرى الثلاثون لاستشهادشمران الياسري.(أبوكاطع)شهادات بعد الثلاثين2
على هامش الصراحة:الذكرى الثلاثون لاستشهادشمران الياسري.(أبوكاطع)شهادات بعد الثلاثين2
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 2 أكتوبر, 2011: 08:28 م