اجرى الاستطلاع/علاء المفرجي
الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد منذ اكثر من سنتين كانت المحور الذي وضعته المدى الثقافي أمام عدد من مثقفينا لاستطلاع آرائهم في ما خص سبل الخروج من هذه الأزمة التي باتت تشكل تحديا جديا لمجتمع ووطن قدما الكثير من اجل نيل حريتهما.
واختلفت آراء ووجهات النظر باختلاف النظر لطبيعة هذه الأزمة وآفاق انفراجها.
خالد السلطاني:
عبور شجاع للمحاصصة
المعمار، والأكاديمي الدكتور خالد السلطاني يرى أن الاحتكام للعقل والمنطق بالنسبة للنخب السياسية من شأنه تجاوز الكثير من المطبات التي تصادف العملية السياسية حيث يقول:
ثمة أزمة خانقة تعيشها البلاد في الوقت الحاضر. وهذه الأزمة طالت: سياسيين، ومثقفين، ومواطنين عاديين. إنها أزمة شاملة وعميقة. وهي، وإن كانت مستمرة منذ عقود، فإنها ازدادت "عرضاً وطولاً"، بالوقت الحاضر، لتشمل الجميع وكل أجزاء الوطن.
لقد حلم كثر من العراقيين، بضمنهم المثقفون، بعد سقوط النظام التوتاليتاري المباد، عام 2003، بان البلاد مقبلة على فتح صفحة جديدة من التطور السياسي، الذي سوف يعجل بنهضة البلد ويساعد على تقدمه في المجالات كافة. لكن الذي حدث، في ما بعد التغيير، هو تسنم أشخاص لأعلى مراتب الحكم، (بسبب ظاهرة الطائفية والمحاصصة)؛ غالبيتهم غير مؤهلين لا مهنياً ولا معرفياً. وأضحى البلد يدار بذهنيات متولدة عن ذلك الغياب المهني والمعرفي، الذي نجم عنه ارتداد مشين نحو الوراء، وتفشي المحسوبية، وانتشار مخيف لظواهر الفساد الإداري والمالي.
ولئن كان الوطن، يمر اليوم، بمثل تلك الأزمة التي تعصف بالبلاد، فان الكثير من المثقفين العراقيين (وأنا اعتبر نفسي أحدهم)، يحلم ، مرة أخرى، بإمكانية زوال كل ما يعيق نهضة البلاد من جديد. ولسان حالنا، في هذا، مقولة الجواهري:
<أنا عندي من الأسى/ جبل يتمشى معي وينتقل
أنا عندي، وإن خبا، أمل/ جذوة في الفؤاد تشتعل!>
وهذا الآمل/ الجذوة، يكمن، كما أراه، في عبور شجاع للطائفية والمحاصصة ( التي يعتاش عليها، وإن أنكر ذلك، سياسيو عراق اليوم جميعهم، بلا استثناء!)، والتعاطي مع مشاكل العراق القديمة والجديدة، برؤيا واقعية وعقلانية، والاهم من دون أوهام. وارى ان ذلك يتم من خلال وصول مواطنات ومواطنين بخلفيات مهنية كفوءة وبمعارف عميقة وشاملة، الى دفة القرار السياسي، التي تجيز لهن ولهم أن يكونوا سياسيين محترفين، يمتهنون العرف السياسي، الذي يرى ان مصلحة البلاد العليا ومصلحة مواطنيه، هما أولوية عملهم، وهما، ايضاً، باعث أساسي لحضورهم في المشهد السياسي المحلي.
شاكر لعيبي:
الأيديولوجية السياسية الواحدة
الشاعر شاكر لعيبي يرى أن الأمر يتعلق بأيدلوجية سياسية واحدة تسعى لفرض أجندتها في المجتمع العراقي قائلا:
لا أدري من هو الذي استخدم لأول مرة تعبير "أمراء الطوائف" للمحاصصة الطائفية في العراق، لكني قرأته في كلمة لعدنان حسين، وقد انتابتني "رعشة الأريحية" لأنه استعارة تطابق الوضع في البلاد، وتلائمني شخصياً، ذلك أنها تستدعي التاريخ وانحطاط الدول عندما تتنازعها محاصصات أمراء الطوائف. هنا إذنْ بداهة للخروج من الأزمة الحالية التي ستستعصي نهائياً بعد بعض الوقت إذا لم تتمّ معالجة أصل الخراب الحالي فيها. المشكلة أن أمراء الطوائف يصطنعون اليوم ثقافة ومثقفين يندرجون بالخوف أو المنفعة أو الشطارة أو غياب الضمير في مشروعهم. هذا مقلق للغاية. إننا نلاحظ غياب وعي نقديّ جذريّ يطال الممارسة السياسية لدى شريحة كبيرة من شبّان العراق، واندراج بعضهم في سياق الأزمة بقبولٍ ضمني لها. لأن هؤلاء الأمراء صاروا قادرين على إدراج شريحة كبيرة منهم في إعلامها وفضائياتها وأدبياتها الميتافيزيقية والعاميّة، أو في الأقل سكوتهم عن ذلك السياق.
إن مثقفاً عراقياً لا بد أن يكون حسّاساً لتقلص التنوّع المعرفي والجمالي والقيميّ الذي كان دائما نتيجة للتنوع الإثني والعرقي والتاريخي للمكونات الأساسية في بلاد الرافدين. غياب أو انكماش الحضور المسيحي والآشوري والصابئيّ وغيره يصبّ باتجاه تضخيم "الجماليات السياسية" المشوَّهة والممارسات القسرية والوحدانية الفكرية ذات الأصل الدينيّ العائد للغالبية التي لم ترغب، لحظة واحدة في تاريخ العراق، أن تهيمن على المشهد الثقافي والسياسي كله بالطريقة الحالية، لأنها وَجَدتْ، عبر التجربة، أن حضور الآخر هو تعزيز لحضورها الثقافي والسياسيّ والوجدانيّ. العكس يتمّ اليوم: إن تقليص الآخر هو تقليص رهيب لوجودها نفسه حتى لو كانت مهيمنة على السلطة.
يتعلق هذا الأمر بـ "الأيديولوجيا السياسية" الواحدة التي تسعى للتغلغل في المجتمع العراقي. إن الذم البدئي البديهيّ لأي أيديولوجيا عندما يتعلق الأمر بالأدب والشعر خاصة، الذم خبط عشواء الذي نلاحظه منذ بعض الوقت في أدبيات ونقود كثيرة (الواهم أحياناً والأيديولوجي هو نفسه في النهاية)، لا يرافقه ذمّ مماثل للأيديولوجيا السياسية المهيمنة اليوم، كأنها في الأدب والشعر شيء، بينما هي لدى الحاكمين وأحزابهم شيء آخر. هنا أيضا أيديولوجيا يتوجّب مواجهتها بالصرامة نفسها التي تواجَه فيها عندما يُعتقد أنها فاعلة مريبة في الشعر والثقافة. السياسة ثقافة أيضاً، علماً أن الثقافة أكبر وأعلى وأجَلّ من السياسة لأنها تطويها في حقلها الرحب.
فاضل السلطاني:
ليعودوا لأمكنتهم الطبيعية
الشاعر فاضل السلطاني يؤكد أن لا أزمة سياسية تضرب البلاد بل هي نتيجة طبيعية تنسجم ومقدماتها قائلا:
لا أجد أن هناك " أزمة سياسية تعصف بالبلد"، وإنما ما نمر به الآن هو نتيجة طبيعة جداً تنسجم مع مقدماتها. الأزمات تمر، قصرت أم طالت. هي انحراف، خطر أو ليس خطرا، في مسار معلوم، محددة مسافته، وواضحة أهدافه، وذي بنية واضح تركيبها، وأجزاء مكوناتها. هي استثناء، قد يطول أو لا يطول، وليست قاعدة. ما نشهده الآن هو القاعدة. هو بناء مشوه لا يستقيم معه ترميم، بل هو كم تجميع اصطناعي تمّ بسرعة عجيبة، فتفككت أجزاؤه بسرعة عجيبة أيضاً. هذا ليس وطنا. لقد سرقوا العراق مرة أخرى، كما سرقه البعثيون طويلا، وهاهم يقدمون لنا نسخة رديئة منه ، متوهمين إنهم سيخدعوننا ثانية. وهم محقون في ذلك، فلطالما خدعنا. نحن ناس بسطاء نُخدع سريعا، وهم يعرفون ذلك، ويجيدون اللعب على حبل هذا الحقيقة. ولكنه ينسون أن غضب الإنسان البسيط دونه تسونامي.
عن أية "أزمة" نتحدث؟ لا نفع الآن من أية ترقيعات إضافية. الحل الوحيد هو أن يعيدوا لنا عراقنا. وهم، بالطبع، لن يفعلوا ذلك عن طيب خاطر. ويا ليتهم يفعلون ، ليوفروا علينا الدم والدمع. ليعودوا إلى الجوامع والمساجد، فهذه هي أمكنتهم الطبيعية. وهم قادرون من هناك على خدمتنا وخدمة العراق، إن أرادوا، وخدمة أنفسهم، أفضل ألف مرة مما هم فاعلون الآن. هذا ليس انتقاصاً، بل احترام لهم ، وللدين أيضا، كما كنا نطالب في السابق بعودة الجيش للثكنات، ليحرس الحدود، فهذه وظيفته الطبيعية. إنهم الآن يسيئون للدولة والدين معا.. أليس هذا جرما مضاعفا؟
العراق ولد خديجا بعد 2003. إنه ابن عملية قيصرية وما يزال. إنه يبدو يتيما، بلا أب أو أم. ومن هم قائمون على أمره الآن لا يريدون له أن يصح، وينمو ويكبر، لأنه سيرفسهم آنذاك. ولكن الأوان قد حان، ولا بد أن نسترد عراقنا، الذي ولد كبيرا منذ عرفته البشرية، عراقنا الذي عرفناه. ولن يتم ذلك إلا بقطع هذه الفترة المشوهة من روزناماتنا.
إني أرى الحل واضحا جداً: تيار شبابي سيظهر يوما، مهما بعد هذا اليوم، ويرمي بنا، سلطة و"معارضة"، محاصصة وطائفية، بنى ومؤسسات، أحزابا وأفراداً إلى حاوية التاريخ، فقد" هرمنا" جميعا. إنه ليس أملاً، بل حتمية، مهما بعدت. لقد عودتنا الشعوب على ذلك، ولكنهم لا يفقهون. عندها سيبعث العراق الواحد من تحت رماد هذا الفترة المستقطعة من تاريخنا، وإن بلغت أجيالاً، هذا الفترة التي صهرتنا في نارها، وشوهت رؤانا.. وأرواحنا أيضاً.
هذا هو الحل الحقيقي، فلا حل آخر قبله أو بعده.
جاسم العايف:
الحفاظ على وطن أسمه العراق
الكاتب جاسم العايف يرى أن الابتعاد عن ثقافة الثأر والاحتكام للدستور على نواقصه وتعديله بشفافية تضمن الحقوق العامة وتصون كرامة كل العراقيين، بالترافق مع تنازلات متبادلة مع أنها ربما تبدو مؤلمة لكن في النهاية لا بد منها، هي الخطوات الأهم للخروج من نفق الأزمة السياسية، قائلا:
ما حصل في العراق بعد سقوط النظام عبر الغزو والحرب وتحكم الإدارة الأمريكية المتنازعة مع كل دول الجوار على (كعكة) العراق قاد إلى عملية سياسية مشوهة. لم يفسح المجال زمنياً لاستقرار الأوضاع العراقية لأسباب عدة في مقدمتها ما خلفه النظام الدكتاتوري من تركة ثقيلة اجتماعياً، وتدخل دول الجوار الإقليمي ، وجعل العراق منطقة جاذبة للإرهاب العالمي وأمور أخرى معروفة. بعد تسلم السيادة عراقياً جرت ضغوط داخلية ذات توجهات طائفية أساساً لكتابات دستور عراقي بعجالة. أصبح الدستور العراقي مفتوحاً على تأويلات عدة، كل مكون عراقي يرى فيه ما يناسبه ، ومن الغريب أن يكتب الدستور بواسطة الساسة والمحاصصة، لا بواسطة فقهاء وعلماء الدساتير ، ومع التحفظات الكثيرة عليه لكنه بات مرجعاً على أمل أن تجري عليه التعديلات التي تضمن حقوق الجميع في المشاركة والمواطنة، دون تمييز ما، وبالتالي فإن كل جهة سياسية ، وكل مكون يستطيع أن يفسر بعض فقرات الدستور على وفق مصالحه ومنافعه ، ولم يتم الارتفاع إلى المستوى الوطني للنخب السياسية التي استأثرت بالسلطة ومنافعها وسدة القرار ونشوته ، رغم الخسائر اليومية الجارية والدماء العراقية التي تسيل دون ذنوب أو معاص من قبل قوى إرهابية دولية وإقليمية ومحلية. ثمة نزوع واضح لاعتماد ثقافة الماضي والثأر المعتمدة والمترسخة جذرياً في ذهنية أصحاب القرار والتي تتلخص في الرجل الواحد والحزب الأوحد وفرض اليقينيات الحزبية وتوجهاتها الدينية المنغلقة والتنكر لأبسط الشروط الإنسانية في مجتمع منهك من الدكتاتورية المتعاقبة والحروب العبثية الخاسرة وسنوات الحصار ، وفداحة الخسائر التي أصابت البنية الاجتماعية في الصميم ونتج عنها تدني في مستوى التفكير الاجتماعي وثمة من يستغل ذلك سياسياً وفرض تصوراته بالإكراه وقوة السلطة القامعة والتنكر لأبسط مقومات المجتمع المدني والعودة بالعراق وشعبه لقرون واستبداد السلطنة العثمانية وما قبلها. الخروج من الأزمة السياسية الراهنة في التصرف الواعي فعلياً بأنه لا يمكن لأي مكون واحد مهما كان حجمه الاستفراد بالعراق وشعبه ولا بد من الابتعاد عن ثقافة الثأر من العراقيين ذاتهم والاحتكام للدستور على نواقصه وتعديله بشفافية تضمن الحقوق العامة وتصون كرامة كل العراقيين دون تمييز مهما كان شكله وتوجهاته، بالترافق مع تنازلات متبادلة مع أنها ربما تبدو مؤلمة لكن في النهاية لابد منها للحفاظ على وطن اسمه العراق.
يوسف أبو الفوز
الحل بجدية الأطراف المتنازعة
القاص والروائي يوسف أبو الفوز يقول:
منذ سقوط النظام الديكتاتوري ، والعراق يخوض في وحل الأزمات ، التي صارت تتوالد وتستعصي يوما بعد آخر ، وتبدو بدون أفق لحل لها ، في ظل حكومات المحاصصة الطائفية والإثنية. وما يقلق أكثر ، هو سياسة الحكومة الحالية ، والاستمرار في تهميش المثقفين والتكنوقراط ، والاستمرار في التجاوز على الحريات الأساسية للمواطنين وانتهاك الحقوق التي كفلها الدستور الحالي ، وعدم وجود أفق لبناء دولة مدنية ديمقراطية واستمرار العجز في التوصل إلى تصورات وطنية مشتركة ، سواء لعمل وإدارة الدولة أم البناء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للبلاد . إن الأزمة الحالية هي أزمة الحكم والدولة . إن قوى الإسلام السياسي تنظر إلى الديمقراطية مجرد آلية للوثوب إلى السلطة ، وهذا عائق كبير أمام بناء دولة القانون والمؤسسات ، ولا يمكن حل الأزمة دون وجود حلول جذرية ، في مقدمتها بناء دولة مدنية ، وصدور قانون أحزاب يحرم تشكيل أحزاب دينية، فإن فصل الدين عن الدولة كان المثابة التي انطلقت منها أوربا نحو المدنية والحضارة .
إن الحلول الجذرية مرهونة بجدية الأطراف المتنازعة، ليس على برامج سياسية أو خطط تنمية، وإنما على اقتسام غنائم هذه الكعكة الشهية التي اسمها السلطة والمال! إن احد الحلول الأساسية يمكن أن تبدأ من عقد مؤتمر حوار وطني تشترك فيه كل القوى السياسية المشتركة في العملية السياسية ، خارج البرلمان وداخله ، وخارج الحكومة وداخلها ، ويعقد أساسا لمراجعة الأسس الخاطئة التي تسير وفقها العملية السياسية في البلاد وأولها المحاصصة الطائفية والإثنية.
القاص والروائي يوسف أبو الفوز يقول:
منذ سقوط النظام الديكتاتوري ، والعراق يخوض في وحل الأزمات ، التي صارت تتوالد وتستعصي يوما بعد آخر ، وتبدو بدون أفق لحل لها ، في ظل حكومات المحاصصة الطائفية والإثنية. وما يقلق أكثر ، هو سياسة الحكومة الحالية ، والاستمرار في تهميش المثقفين والتكنوقراط ، والاستمرار في التجاوز على الحريات الأساسية للمواطنين وانتهاك الحقوق التي كفلها الدستور الحالي ، وعدم وجود أفق لبناء دولة مدنية ديمقراطية واستمرار العجز في التوصل إلى تصورات وطنية مشتركة ، سواء لعمل وإدارة الدولة أم البناء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للبلاد . إن الأزمة الحالية هي أزمة الحكم والدولة . إن قوى الإسلام السياسي تنظر إلى الديمقراطية مجرد آلية للوثوب إلى السلطة ، وهذا عائق كبير أمام بناء دولة القانون والمؤسسات ، ولا يمكن حل الأزمة دون وجود حلول جذرية ، في مقدمتها بناء دولة مدنية ، وصدور قانون أحزاب يحرم تشكيل أحزاب دينية، فإن فصل الدين عن الدولة كان المثابة التي انطلقت منها أوربا نحو المدنية والحضارة .
إن الحلول الجذرية مرهونة بجدية الأطراف المتنازعة، ليس على برامج سياسية أو خطط تنمية، وإنما على اقتسام غنائم هذه الكعكة الشهية التي اسمها السلطة والمال! إن احد الحلول الأساسية يمكن أن تبدأ من عقد مؤتمر حوار وطني تشترك فيه كل القوى السياسية المشتركة في العملية السياسية ، خارج البرلمان وداخله ، وخارج الحكومة وداخلها ، ويعقد أساسا لمراجعة الأسس الخاطئة التي تسير وفقها العملية السياسية في البلاد وأولها المحاصصة الطائفية والإثنية.
إعادة تأهيل البنى المتآكلة داخل المجتمع والدولة
كاظم الواسطي:
الكاتب كاظم الواسطي يقول:
إن الأزمة السياسية التي يمر بها العراق اليوم هي نتيجة لتراكم عوامل عديدة تحكمت بواقع العملية السياسية بعد عملية التغيير في التاسع من نيسان 2003 وطبيعة القوى والأحزاب التي شكلّت القوة المهيمنة والحاكمة في البلاد . وإن غياب برنامج سياسي وطني يوّحد رؤى وتصورات هذه القوى سبب اختلالا عميقا في آليات عملها وفي طبيعة العلاقات في ما بينها. لقد شجّع هذا الاختلال البنيّوي – المتجذّر في هوية هذه القوى – على اعتماد نظام المحاصصة الذي مزّق النسيّج الاجتماعي ، ووضع البلاد في مهّب مهاوٍ سياسية وأمنية ما زالت تعصف بحياة العراقيين ، وتضع مستقبلهم رهينةً للمجهول . وما زال ساسة المحاصصة يمارسون لعبتهم الأثيرة في تغيير أقنعة الأدوار والمواقف على وفق ما تقتضيه مصالحهم الفئوية والحزبية بمسميات الدين والطائفة والقومية ، هذه المسميات التي أريد لها أن تكون موّجهات للتأثير على مشاعر الناس وولاءاتهم باتجاهات مغايرة لمصالحهم الحقيقية في العيش المشترك ، والعمل سوية في وطنٍ للجميع . وقد ترّتب على واقع العملية السياسية التي تقودها قوى المحاصصة المتصارعة على النفوذ والسلطة الكثير من الإشكاليات والتعقيدات التي تراكمت لسنين دون اهتمام ، بل لنقل بصراحة ، بمحاولات مستمرة لمضاعفتها وتعميقها من قبل هذه القوى . وفي مثل هذه الظروف المعقّدة يتحمل المثقف الحقيقي مسؤولية أخلاقية في توضيح وكشف الحقائق التي تشكّل عناصر المشهد السياسي الفاعلة وتبيين تأثيراتها على البنّية الاجتماعية والثقافية والنفسية في العراق ، ليعرف المواطن حقيقة ما يجري حوله .وفي جانب الحلول العامة ، يبقى السؤال الأكثر أهمية هو هل تستطيع هذه القوى بتشكيلاتها المنتجة للازمات طوال تسعة أعوام على وضع حلول عقلانية للأزمة الحالية؟ وهل هناك قوة مرشحة فعلا لتخليص البلاد من عواصفها التي تزلزل حياة المواطن على مدار اليوم الواحد؟ لا يمكنني تصور مشروعا للحل من قوى نسجت بيدها شِراك الأزمات، ومازالت تضع العراقيل من كل نوعٍ لتحقيق لقاء يجمعها بينها . وفي جانب محدود، يمكن لإبقاء بعض المصالح نوعا من ترقيعات حلول تجعل الأزمة تُراوح في مدارها المرسوم لبعض الوقت ، ولكن لن يكون ذلك دائما تحت السيطرة في ظل انعدام الثقة المزمن بين النخب السياسية الحالية، وعدم ظهور تشكيلات جديدة وفاعلة داخل هذه النخب تعمل على إعادة النظر بهيكلياتها القديمة، وتعديل تراتبياتها التنظيمية المغلقة على الرأي الأوحد، والانفتاح بوجوه وسياسات جديدة تعمّق مبادئ العيش المشترك، وترسم بثقة متبادلة إستراتيجيات مشتركة للعمل الوطني. بخلاف ذلك، وفي ظل تأثير أوضاعٍ دولية وإقليمية في حراك ولاءات ومصالح مستمر، لن يكون ممكنا تقديم قراءة واحدة لسبل الخروج من الأزمة، ولا رؤية محددة لما ستؤول اليه مستقبلا، خاصة في غياب أو ضعف قوى سياسية لها مصلحة حقيقية في إعادة تأهيل البنى المتآكلة داخل المجتمع والدولة.
نجم والي:
البحث عن ديمقراطيين
بينما يرى الروائي نجم والي أن أفكارا عدة كفيلة بإخراج البلد من أزمته السياسية أهمها أن العراق بحاجة إلى ديمقراطيين يؤمنون بكل مبادئ الديمقراطية... عاقدا مقاربة مع الوضع الألماني بداية القرن المنصرم:
ما يحدث اليوم في العراق يذكرني بالوضع الذي كانت عليه جمهورية فايمار الألمانية التي نشأت عام 1918 على أنقاض أفول الإمبراطورية البروسية وهزيمة الألمان في الحرب العالمية الأولى، إذ ظلت الجمهورية هذه لسنوات طويلة مسرحاً للاضطرابات السياسية. الهزيمة العسكرية والديون التي كبلت ألمانيا ثم التضخم الاقتصادي وجيوش العاطلين عن العمل، كل ذلك دمغ التجربة الديمقراطية الفتية الألمانية آنذاك بدمغتها، الاضطرابات سيطرت على الشارع، الخارطة السياسية للأحزاب مبهمة ومتداخلة مع بعضها، أية مصادفة، كأن تجربة ألمانيا تتكرر اليوم عندنا، ديمقراطية أكثر هشاشة بالأحرى، فعلى الأقل ما ميّز التجربة الألمانية، هو أن الأحزاب امتلكت تاريخاً طويلاً على عكس أغلبية الأحزاب العراقية التي تكاثرت مثل نبات الفطر بعد 2003، لكن ما يجمع التجربتين هو سقوط الحكم الأتوقراطي المتمثل بالقيصر فيلهلم الثاني في حالة ألمانيا وبصدام حسين التكريتي في حالة العراق، إضافة إلى تاريخ متراكم من نضال الناس في الحالتين، ففي حالة العراق جاءت التجربة الديمقراطية الناشئة بعد سلسلة من المقاومة، بعد تاريخ طويل من نضال الأفراد أو النضال الذي حملته على عاتقها مجاميع بشرية وأقليات، وأن من الإجحاف الاعتقاد أن 35 عاماً من الحكم البعثي سقطت لدخول القوات الأميركية والبريطانية وحسب، كلا، جورج بوش وتوني بلير وحلفاؤهم، قطفوا الثمرة الأخيرة من نظام تلقى ضربات عديدة على أيدي الناس، آلاف من العراقيين تمردوا على الديكتاتورية، ومن لم يدخل السجون البعثية ويعرف التعذيب على أيدي جلادي النظام ويخرج بعدها مخرباً أو منفياً، فإنه انتهى إلى عظام مجهولة الهوية في المقابر الجماعية، وهو التاريخ هذا الذي عاشه العراقيون حتى الماضي القريب والذي أصبحت تفاصيله معروفة للأغلبية، يقول: قتلانا يضربون على الأبواب، ويُذكرونا، أن لا بديل للعراق بعد اليوم غير النظام الديمقراطي، بكل ما يعنيه من واجبات وحقوق، لا بديل عن التبادل السلمي للسلطة، وأن ديمقراطية صلدة تحتاج بالتأكيد إلى ديمقراطيين يؤمنون بها، يدافعون عنها، وليس هؤلاء الذين يحكموننا منذ تسع سنوات باسم الديمقراطية وهم غير ديمقراطيين، مزورو شهادات ولصوص لم يجدوا في الديمقراطية إلا فرصة بالحصول على غنيمة، همهم الوحيد سلب قوت الشعب، إبادة توقه للحرية والعيش بسلام.
الخروج من الأزمة وإنقاذ الديمقراطية في العراق بحاجة إلى ديمقراطيين يؤمنون بالتداول السلمي للسلطة، إلى سياسيين يملكون فلسفة في إدارة البلاد، افكاراً لإخراجها من البؤس الذي هي عليه، يملكون مشروعاً مستقبلياً ديمقراطياً يعتمد بصياغة رؤاه على الحقوق الأساسية المدنية والسياسية التي كفلها الدستور، على منح فرص متساوية لجميع العراقيين للمشاركة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبالتساوي، بغض النظر عن الأصل والجنس، عن الداخل والخارج. حتى ولادة جيل سياسيين ديمقراطيين ليبراليين ستظل هذه الأزمة تطحن في حياتنا ولن تغيرها انتخابات قادمة أو حكومة أغلبيات.
العراقيون هم شعب الانتظار بامتياز. ليست تلك هي المرة الأولى التي يقفون فيها ينتظرون في محطة العذاب. 35 عاماً دامت ديكتاتوريات البعث وصدام، والأمل ألا يكون عليهم الإنتظار مرة أخرى أكثر من ثلاثة عقود لكي تنتهي ديكتاتوريات جديدة تحكم هذه المرة باسم الديمقراطية ودولة القانون!
ديمقراطية فايمار الهشة انتهت إلى صعود هتلر وحزبه النازي وإلى كارثة الحرب العالمية الثانية والهولوكوست، بالرغم من وجود عدد غير قليل من الديمقراطيين، ديمقراطية العراق الهشة التي للأسف لم تنجب حتى اليوم ديمقراطيين، ستقود بالتأكيد إلى خراب العراق، على حرق الأخضر واليابس، إذا لا تكون نتيجتها في النهاية، إخراج العراق تماماً من "بند" التاريخ!
جميع التعليقات 1
د. محمد حسين حب
وانا اقول : (( س : كيف تنظر كمثقف لسبل الخروج من الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد ؟ ج : اصبحت الأزمات السياسية لدينا من (البداهات) بحكم التكرارية والتواصلية .. سواء كانت الازمة يومية او شهرية او سنوية .. وسواء كانت هذه الازمة السياسية العراقية مفتع