شاكر لعيبي 3- 3 كان بيكاسو الذي كان في ذلك الوقت يعمل ردّاً على لوحة ماتيس "بهجة الحياة" Le bonheur de vivre, 1905 ويرسم "آنسات أفينيون"، يدرك في أعماقه أن التصميم الزخرفي كان عنصراً حاسماً في أعمال ماتيس، وهو يعكس، إذا ما أُحسن استغلاله في العمل الفني، إيقاعاً بصرياً محضاً. كان يرفض ظاهرياً الاعتراف بأن جماع تأثيرات للإيقاع الزخرفي
يمكن أن تشكل تياراً تشكيلياً راديكالياً، وليس محض تناقض شكلي مع التيارات السائدة. لكنه استخدم هو نفسه شيئا كثيرا، على طريقته الخاصة، من تلك الموتيفات التي اقترحُ دائما أنها مالقية أندلسية في العديد من لوحاته. ذهب بيكاسو للفن الزنجي كما نعرف كأحد المصادر الأساسية لمرحلته التكعيبية، بينما ذهب ماتيس للفن الإسلامي في بحثين يفترقان لكنهما يلتقيان من الداخل، خاصة في مرحلة لاحقة من عمل بيكاسو. فقد دفع إصرار ماتيس الأسلوبي الذاهب إلى الفن الإسلامي بيكاسو إلى منافسة لوحة ماتيس "المغاربة" بلوحته "الموسيقيون".بعد موت ماتيس عام 1954 رسم بيكاسو النساء الشرقيات بأسلوب قريب من محظيات ماتيس، وكأننا به يعيد بعضها ولكن بأسلوبه الثر الحر الخاص وبباليتته الشخصية، مستعيداً في لوحته (سوزان والعجائز، عام 1955) عوالمه الشبقية الأثيرة التي لم يكف عن تقديمها طيلة حياته. لقد وقع اختصار زخارف الوسائد والفراش بطريقة بلاستيكية بينما وقع بالمقابل وضع دوائر شبه منحنية ذات طابع لُعُبي على ساق الموديل. أن خطوطاً متوازية أو متقاطعة، عرضية أو طولانية هي لعبة تشكيلية لم يكف بيكاسو عنها غير معترف البتة بمصادرها، إلا بعد موت ماتيس وبطريقة غامضة، فعندما رسم بعد عام واحد فقط من رحيل منافسه، لوحة أسماها «نساء الجزائر، (من وحي ديلاكروا)» يظهر ماتيسيا أكثر من ماتيس على ما يقول بعض مؤرخي الفن، وقد دافع بيكاسو عن ذلك رداً على ملاحظة صديق له: "نعم أنت على حق، فقد ترك ماتيس بعد وفاته لوحات نسائه إرثاً في ذمتي، أما لوحاتي هذه فتمثل رؤيتي للشرق [يقصد شمال أفريقيا] حيث لم أذهب إلى هناك أبداً" . لم يذهب بيكاسو إلى شمال أفريقيا لكنه كان يعيش رغم ذلك فيه. عندما نفحص لوحته "نساء الجزائر" عام 1955 وبعيداً عن موقفه المدافع فيها عن نساء المستعمرات الفرنسية، كما بعيداً عن رده فيها على موقف دولاكروا الإكزوتيكي الاستشراقي، نرى قليل أو كثير دينه للفن الشرقي (حتى لا نقول الإسلامي)، قبل وبعد هذه اللوحة، ونرى فيها مصادر زخرفية تنهل من معين لا يعترف به تاريخ الفن إلا نادرا على استحياء شديد، كما لا يقول عنه بيكاسو نفسه شيئا يُذكر.وقد ظهر ذلك في سلسلة اللوحات الخمس عشرة التي أنجزها على هدى لوحة "نساء الجزائر (من وحي ديلاكروا)" إذ أكمل أول اثنين منها في 13 كانون الأول (ديسمبر) 1954، أي بعد ستة أسابيع من وفاة ماتيس، وكان تأثير لوحات النساء التي رسمها الأخير، بمؤثرات شرقية، شديد الظهور واضحا وجليا في لوحاته. كان بيكاسو يعرف جيدا - وأشار إلى ذلك في مواضع كثيرة- كيف تغلغل ماتيس بعد وفاته في أعماله، ليس فقط في سلسلة أعمال ما بعد ديلاكروا، ولكن في مجمل إنتاجه لتلك الفترة، يظهر ذلك أحيانا في بعض مظاهر اللوحة ومناخها العام أو في روحيتها والأحاسيس التي تحيط بها وأحيانا في تكوينها وبنائها وتفاصيل بصرية كثيرة فيها. كان يود ويقوم، لا شعوريا في رأيي، بالرد على ماتيس عمليا بإنجاز لوحات تؤكد أنه يعرف الفن الإسلامي أكثر منه.لنبق عند لوحته (نساء الجزائر) ولنلاحظ، من الزاوية التي تعنينا هنا فقط، بأنها محتشدة حرفياً بكل الموتيفات المسماة عرابيسك: الخطوط الطولانية والعرضية وأشكال المعينات، وتجاوُر الألوان الزاهية كما في السجاد، والتجريد، والتناظرات اللونية، وجميع الأشكال الهندسية المتراكبة كالمستطيل والمثلث والدائرة، والمعالجة اللونية الأخيرة التي تمنح للعين لعبة من ألعاب الأربيسك رغم الموتيفات التشخيصية الموجودة في اللوحة. إن الانطباع الممكن الخروج به من هذه اللوحة أنها، ببنيتها العامة وتركيبها اللوني، وكأنها سجادة شرقية معمولة على مزاج وبإبداع بيكاسو الفذ. عندما سيعيد معالجة لوحة فيلاسكيس الشهيرة (وصيفات الشرف: لاس مينيناس 1656) Les ménines d'après Velasquez المرسومة عام 1957 فإنه لن يقوم إلا بالأمر عينه بالضبط رغم أن استعارات ومنحى فيلاسكيس يختلف عن معالجة ورؤية ديلاكروا. لقد طواهما كليهما في رؤيته المزخرَفة. لماذا يستخدم الأسلوب عينه بالعودة إلى لوحتين لا علاقة بينهما شكلياً؟ إنه يفعل لصالح همه التشكيلي وحده الذي يبدو أن هاجسا ماتيسيا قد انصب فيه انصباباً، والذي يبدو بالتالي وقد أخذه إلى الأماكن ذاتها التي كان ماتيس يسعى إليها: الفن الشرقي.
تلويحة المدى :بيكاسو والفن المسيحي الأندلسي المستعرب
نشر في: 7 أكتوبر, 2011: 07:37 م