شاكر الانبارينحن في العام ألفين وأحد عشر، أي بعد أكثر من اربع سنوات على ذروة الاقتتال بين الارهاب، بتلاوينه كافة، وبين الشعب ومؤسساته الحكومية. الاقتتال الذي أوصل العاصمة بغداد، وبعض المحافظات، الى الحضيض، وكاد يذهب بالحياة المدنية تماما لولا ان تم وقفه من قبل الحكماء، والمسؤولين الوطنيين، الذين عرقلوا الانزلاق الى حرب طائفية. وكان واحداً من الحلول هو ابتكار المنعزلات الكونكريتية التي تحيط بالمناطق، والمدن، والأحياء، حيث لم يترك سوى منفذ واحد للدخول والخروج.
يعتقد ان ذلك الحل كان من ابتكارات الجيش الأميركي، ورغم انه ساهم، قليلا، في منع الميليشيات من مهاجمة بعض المناطق، وضيّق الخناق على حركة الخيوط الخفية لمجاميع الارهاب، الا انه لم يكن عاملا حاسما في تثبيت اسس المجتمع مرة اخرى، وتجاوز الاختناقات الطائفية وصولا الى مفهوم المواطنة. صحوة المجتمع هي التي فعلت ذلك. لكن المنعزلات الكونكريتية تلك، بعد تراجع الارهاب، وضمور الميليشيات، وانسحاب الجيش الاميركي، وعودة الحياة الى ايقاعها الطبيعي، نسبيا، اعطت مفعولا عكسيا، اذ انها كرست العزلة الاجتماعية بين حي وآخر، لا على الصعيد المحسوس فقط، بل على الصعيد المعنوي ايضا. جعلت المواطن في تلك المنعزلات، من اي شريحة كان، يحس وكأنه مرفوض، وغير موثوق به، ومعرض للمساءلة، والتفتيش، والاهانة بعض الأحيان. كما اشاعت صورة بصرية بشعة لمدينة بغداد، لا للمواطن المحلي فقط ولكن للزائر العربي والأجنبي كذلك. تلك الجدران الكونكريتية العالية تقتل النور، وترفع درجة اليأس الى مديات عالية، وتستهين بقدرات الشعب على تجاوز الماضي والبدء برحلة البناء. والأنكى من ذلك ان هذا الأمر يكشف عن ترهل حكومي شرس، لا يريد أن يراجع نفسه، او يراجع المرحلة السابقة، والا فكيف يمكن تفسير بقاء هذا الكم الهائل من الجدران حول الأحياء والمدن رغم عدم وجود حاجة امنية لها؟ وكيف تنسى الحكومة ان هذا الحل، حل الجدران الكونكريتية، وضع لسنوات المد الطائفي، والميليشاوي، والارهابي، ونحن في العام ألفين وأحد عشر؟ لا يستطيع اي مسؤول أمني ان يقنع مواطنا بسيطا بمقولة ان بقاء هذه المنعزلات هو الذي يحافظ على الأمن النسبي في بغداد. ثم ألم يبتكر مسؤول مثقف، او اكاديمي قريب من موطن القرار، فكرة فكفكة تلك الصبات القاتلة والاستفادة منها في مشروع ما؟ هناك اقتراح وجيه أمام المسؤولين هو اقامة زقورة عملاقة من هذه الصبات على مشارف بغداد، تتحول الى اثر حضاري، وفني، يربطنا بتاريخنا القديم، تاريخ سومر وبابل المليء بالزقورات. رمز يذكرنا بمهانتنا الحضارية حين تحولنا ذات سنة الى ضوار بشرية يقتل بعضنا بعضنا على الهوية والمذهب والاسم. ورمز لحقبة سوداء تشابكت بها الجيوش الأجنبية مع الأنظمة الفاسدة، والفراغ الروحي الذي عاشته قوى سياسية كانت معارضة مرة وتحولت الى حكام لا يرون ابعد من ارنبة أنوفهم. ولا يرغبون في مراجعة التجربة المريرة في سنوات الضياع، والبؤس، والقتل المجاني. فالعراقيون لا يريدون، بعد اليوم، البقاء أحياء في مخابئ لا تصلح سوى للجرذان.
كلمات عارية: مخابئ الجرذان
نشر في: 14 أكتوبر, 2011: 07:40 م