حسين علي الحمداني بدأت ثورات الشعوب العربية تأخذ منحنيات جديدة بعد تحقيق هدفها الأول المتمثل بإسقاط الأنظمة الشمولية في بلدانها ، لكن المهمة الأصعب تكمن في إعادة بناء النظام السياسي الجديد على أسس ديمقراطية حقيقية‏,‏ وفق المعايير المتعارف عليها بعيداً عن التهميش والإقصاء.
ومن الضروري هنا أن نشير غالى أن ثمة واقعا عربيا جديدا لم يكن مألوفاً من قبل قد ظهر بقوة، واهم ما يميزه حالة الحراك المجتمعي الدائمة والمتواصلة التي تصل في أحيان كثيرة إلى درجة عاطفية كبيرة لمختلف مكونات المجتمع العربي الذي كانت الأنظمة الشمولية تصر على إنه مجتمع له هوية واحدة هي هوية الحزب الحاكم وتحاول بناءه وفق هذه الفلسفة. وبالتالي فإن انهيار هذه الأنظمة مهّد الطريق لظهور فعاليات سياسية واجتماعية هي ليست جديدة بل كانت مغيبة بحكم الشمولية والاستبداد،ووجدت أن الفرصة سانحة أمامها لأن تأخذ مكانتها التي تمت مصادرتها في عقود حكم النظم الشمولية، وبعض هذه الفعاليات عبارة عن أحزاب وحركات سياسية كانت محظورة وأخرى أقليات اجتماعية كانت مهمشة.وبالتالي فإن واحدة من أهم التحديات التي ستواجه عملية بناء الدولة تكمن في كيفية التعامل مع الواقع الجديد وتسخيره لصالح عملية البناء وجعل التنوع الفكري والديني وحتى القومي سمة من سمات المجتمع وعاملاً إيجابياً بدلاً من تحويله لعبء اجتماعي وسياسي يقوض الدولة ويصادر هويتها الجامعة للمكونات بما يؤسس لتكوين كانتونات بأشكال وتسميات مختلفة .ومن البديهي جداً أن ندرك بأنه بعد تغيير أي نظام سياسي أو حتى مجرد إجراء بعض الإصلاحات فيه أن تصاحبه تغييرات مجتمعية وهيكلية متنوعة في جميع مجالات الحياة الرئيسة التي تمس شكل الدولة وفلسفتها وبنية المجتمع وتنوعه وتحدث تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية. وعملية التغيير هذه هي عملية بناء تربوي ثقافي قبل أن تكون عملا سياسيا بحتا، وهنا فإن الدولة العربية ما بعد الثورات تكون مهمتها ووظيفتها الأولى وظيفة تربوية وتنشئة المجتمع للتعايش مع الآخر وقبول الرأي والرأي الآخر، بعيداً عما كان سائداً في الماضي،بحكم إن ثمة مفاهيم جديدة ستدخل قاموس التداول اليومي سواء بالأحاديث الجانبية أو عبر وسائل الإعلام أو حتى من خلال الممارسات الديمقراطية ذاتها .وعندما نقول إن وظيفة الدولة بعد التغيير هي وظيفة تربوية فإنما ننطلق من أن المجتمع العربي الذي عاش عقودا طويلة من الاستبداد والقمع والتهميش والمصادرة للرأي، يحتاج الآن لعملية بناء مفاهيم جديدة ترتقي به من حالة كانت سائدة إلى أخرى جديدة تتمثل بتحويل المواطن العربي من منصت ومصفق للقرارات التي كانت تصدر في السابق إلى مشارك في القرار وصانع له، ومعارض له إن كان يتعارض ومصالح المواطن بشكل أو بآخر، وهذا ما ينتج لنا مجتمعا مدنيا عربيا ذا فعالية كبيرة.وهنا نستشهد بما توصل إليه كل من سيدني فيربا وجابريل ألموند، في كتابهما الثقافة المدنية الصادر عام 1956، حيث قسّما ثقافات الشعوب والمجتمعات إلى ثلاثة أنواع من الثقافة السياسية،وهي:"الضحلة أو الضيقة، والتابعة أو الرعوية، والمشاركة أو المنفتحة " ففي الثقافة السياسية الضحلة، فإن المواطنين يدركون بصورة هلامية غير محددة وجود حكومة مركزية دون أدنى معرفة بكنه وماهية ووظيفة هذه الحكومة أو الدولة التي من المفترض أنهم ينتمون إليها وكيف تسير الأمور وكيف يتم بناء مؤسسات الدولة وتشريع وسن القوانين، ناهيك عن الدور الغائب للمجتمع في صنع القرار. وفي الثقافة السياسية التابعة، فإن المواطنين ينظرون الى أنفسهم باعتبارهم غير مشاركين في العملية السياسية، وإنما كتابعين ورعايا للدولة، كما هو الحال بالنسبة للشعوب التي تعيش تحت نير النظم الدكتاتورية. أما في الثقافة السياسية المنفتحة، وهي القائمة على مفهوم المشاركة السياسية، فإن المواطنين يعتقدون بأنهم قادرون على المساهمة في عملية صنع القرار بل يؤمنون بهذا من خلال دورهم في انتخاب ممثليهم في السلطة التشريعية، وبأنهم يملكون آليات للتأثير في النظام السياسي القائم وكذالك التأثر به.ووفقًا التصنيف فإننا نجد بأن عملية بناء المواطن في الدول العربية قبل الثورات كانت غايتها الأساسية إنتاج النوعين الأوليين فقط ، الضحلة الضيقة ، والتابعة الرعوية ، حيث كانت عملية بناء الإنسان قائمة على مجموعة أنماط سلوكية عادة ما تكون سلبية غير قادرة على إحداث عملية تغيير أو حتى رفض للواقع، وبالتالي صنعت هذه الأنظمة نوعا من الاستسلام والخوف لدى المواطن مكّنها من البقاء أطول فترة ممكنة في الحكم، وبالتأكيد فإن الحكومات الاستبدادية استخدمت ما متوفر لديها من آليات فعالة وفي مقدمتها المؤسسات التربوية ووسائل الإعلام الأحادية في ترسيخ هذا بما يصب في مصالحها فقط.لهذا فإن أبرز التحديات التي ستواجهها عملية بناء الدولة في مرحلة ما بعد الربيع العربي هي محاولة البعض لإعادة إنتاج الدكتاتوريات والاستبداد بطريقة جديدة وآليات هي الأخرى جديدة، وربما هذه المخاوف تساور البعض سواء في مصر أو تونس ، من خلال النتائج الميدانية والحوادث التي حصلت بعد انهيار النظم الشمولية
هل تنتج الثورات العربيّة ثقافةً سياسيّة جديدة؟
نشر في: 19 أكتوبر, 2011: 06:17 م