لطفية الدليمي الاحتفاء بالمبدعين والعلماء والمبرزين في مجالات الفن والفكر والقانون والفلسفة، تتعدد وسائله في البلدان التي تقدر جهد العقول المبدعة، فلا تكتفي بمنح المبدع درعاً أو شهادة ورقية سريعة البلى، بل تعمد إلى إعادة طبع نتاجه ومساعدته على العيش بكرامة تليق بإنسانيته ومنجزه، وتساعد المخترعين، وتنفذ مشاريع العقول البناءة لتطوير حياة شعوبها، وتضع صور بعضهم على عملتها الوطنية.
النحات والرسام السويسري البرتو جياكوميتي الذي يعد مع هنري مور أعظم نحاتي القرن العشرين في أوروبا، وهو المتأمل الخارج على قوانين الفن وكلاسيكية النحت، كان فنه احتجاجا على المجهول وحماقة البشر في حروبهم الدموية، عاش حياته بنزعة عدمية ورفض كل منطق نفعي ، وغادر باريس خلال الحرب العالمية الثانية عائداً إلى وطنه سويسرا ، ثم ما لبث إن عاد إلى مشغله في حي مونبارناس بعد انتهاء الحرب، ليكمل بحثه في الشكل الإنساني الذي طالما انشغل به، ولبث ينقب في الأعماق المجهولة عن هذا السر المغلق : الإنسان ..عند انتهاء الحرب العالمية تزوج جياكوميتي بسويسرا من آنيت آرم، وهو في أواخر الأربعينيات من عمره، ثم عاد معها إلى باريس، وأفصح جياكوميتي عن سرّ إبداعاته المتأخرة والكثيفة وعزاها لزواجه الناجح وقصة حبه الهائلة لزوجته آنيت، وكان يقول: إن تواصلي الجسدي والروحي معها يشحنني بالإلهام لأدراك سر الحياة العبثية والتغلب عليها، فجسد امرأتي المعشوقة هو من يحتضنني ويفجر إبداعاتي...كرس حياته للبحث الفني، وعمل على تحطيم النسب الأكاديمية وقواعد التشريح التي تحكمت بالفن الكلاسيكي منذ عصر الإغريق، وانصب جهده على تقديم الوجه الإنساني بصفته المحيّرة وانطوائه على السر، فوجوه منحوتاته لا تمنح سوى الجهل بالحقيقة الإنسانية لان الوجه قناع وخديعة توهمنا أنها تكشف، لكنها لا تجيد سوى الإخفاء المتقن..كشف جان جينيه عن انشغالات جياكوميتي عندما كان يزوره في مشغله ويكتب عنه احد نصوصه المهمة: (... ليس للجمال أصل سوى ذلك الجرح المتفرد، المختلف لدى كل إنسان (...) ويبدو لي أن فن جياكوميتي يسعى لكشف هذا السر لدى الكائنات والأشياء ليضيئها..) المفارقة أن الرجل الذي طالما رفض المنطق النفعي في الفن وضعته بلاده على أكثر الأشياء نفعية في الحياة: النقود..!!منحوتته الشهيرة «الرجل الماشي» الإنسان المتجه إلى المجهول، لا تعرضها سويسرا في متحف فحسب، بل تنقشها على أوراق عملتها الوطنية، ورقة المئة فرنك يزينها وجه النحات الضامر بنظرته التي تحدق بالمجهول، وترنو إلى زمن هارب، وفي إحدى زوايا الورقة صورته يعمل في مشغله على منحوتة منمنمة مرهفة، الصورة المائية الخفية هي لوجه النحات ونظرته الهائمة..الوجه الثاني لورقة المئة فرنك تكرار تصويري للمنحوتة الشهيرة من منظورات مختلفة وكل وضعية مرسومة بلون مغاير، ولأنها ليست لوحة ذات بعدين، يقدمها المصمم من جوانبها المتعددة، فنراها أولاً من منظور جانبي باللون الأزرق، ومن منظور نصف أمامي وجانبي بلون ارجواني، وبمنظور يرينا ثلاثة أرباع المنحوتة بلون مخضّر، أما المنظور الأخير فهو لمنحوتة مرئية من الأمام باللون الأبيض الناصع، وعلى جانب الورقة الأيمن وجه المنحوتة ونظرة الرجل البريئة الحزينة المشبعة بالرعب مما يدور في دنيا البشر..ورقة المئة فرنك السويسري معرض يتداوله الناس في المقهى والمسرح ووسائط النقل و يعرفه الأطفال والكبار والسائحون والمصرفيون وربات البيوت والباعة وسائقو الأجرة.. فمتى نرى في بلاد العجائب العراق- وجه مبدع أو عالم معاصر على عملتنا الوطنية؟
مقالات واعمدة ارشيفقناديل :كيف تحتفي الدول بمبدعيها الكبار؟النحات جياكوميتي على أوراق العملة السويسريّة
قناديل :كيف تحتفي الدول بمبدعيها الكبار؟النحات جياكوميتي على أوراق العملة السويسريّة
نشر في: 22 أكتوبر, 2011: 07:04 م