ناظم عودة في عصر الاستبداد الروسيّ؛ القيصر والنبلاء، صرخ واحد من أعظم الشعراء الروس، بوشكين، مخاطباً الملوك: "ألا اعلموا الآن، أيها الملوك، إنّ شيئاً لن يستطيعَ حمايتكم بعد اليوم، لا العقوبات، ولا المكافآت، ولا مذابح الهياكل ولا السجون".
"بعد اليوم" هذه، ترصد الأساليب السياسية في الفترة الحرجة، أو اللعب في الوقت الضائع. ليستْ الحكمة السياسية مطلقة، وغير خاضعة لمعيار الزمن، فهذا الأخير هو ميزان الحكمة السياسية. فهؤلاء الملوك/ الحكام، الذين ترك لهم الشعب الحبل على الغارب طوال عقود، وما زادهم ذلك إلا فساداً وتجبّراً، فما كان منهم إلا أنْ اعتبروا كلّ دعوة للإصلاح فتنةً وخروجاً على النظام، وبعضهم من اعتبر ذلك خروجاً على الدين أيضاً.إنّ الثورة الشعبية، لم تكن نزوة عبثية، وإنما هي تعرية لكل ذلك الكمّ الهائل من الفساد والاستبداد. فزمن الثورة ومنطقها، لا ينتميان إلى زمن المستبدّ ومنطقه، ولذلك فإنّ سياسة ما بعد الثورة بالنسبة للمستبدّ، هي محاولة يائسة لإرجاع الزمن إلى الوراء، وهيهات ذلك. حاول الرئيس التونسي، والمصري، والليبي، واليمني، والسوري عبر خطابات يمكن أنْ نطلق عليها خطابات العودة إلى الوراء، أو خطابات الوقت الضائع، أنْ يستجدي من شعبه فضلة زمن يقتاتُ عليها ما تبقى له من الوقت الضائع. لكنّ الزمن يقتلُ أيضاً، وقديماً قالت العرب في أمثالها: الوقتُ كالسيف إنْ لم تقطعه قطعك. وهؤلاء الذين استهتروا بنفوس الناس، وداسوا على كراماتهم، واستبدوا بهم، كل ذلك جرى في فائض من الزمن، لكنّ الثورة هي زمن هو زمن النهايات والخواتم، وفائض زمن المستبدّ يتقاصر سريعاً، حتى كأنه كما يقول أبولينير: "يذوبُ الزمنُ كما تذوبُ قطعةُ الزِّبْدِ تحتَ وطأة النار الضارية".هذه اللحظة، التي يذوب فيها الزمن، هي ما لا يقدر المستبدون على فهمها، لأنّ مطلق المستبدّ يجعله يحكم خارج مدارات الزمن.إنّ المستبدّ والثائر يتصارعان معاً على "الزمن" نفسه، ففي الوقت الذي يريد الأول أنْ يوجّه مسار الزمن إلى الوراء، فإنّ الثاني يدفع به نحو نهاياته القصوى. حتى العنف، لا يقدر أنْ ينفذ مشيئة المستبدّ، فقد أراد القذافي أنْ يوقف جريان الزمن الذي فلتَ من قبضته، فزحف بكل ما أوتيَ من قوة ومعدات عسكرية نحو بنغازي، معقل الثورة، لكنّ الزمن خذله قبيل سويعات من توجيه مجراه، كما خذل حاكمَيْ تونس ومصر عندما سهرا ليلاً نهاراً مع اللغة يتوسلون إليها أنْ تقوم مقام السيف في تغيير مجرى الزمن، لكنّ هذا الجريان ينبعُ من إرادة الشعوب المقهورة التي اندفعتْ بزمنها كما يندفع الموج الهادر من أعماق المحيطات. وفي الوقت الذي كنتُ أكتبُ فيه هذه المقالة، ألقي القبض على القذافي جريحاً، ثم قُتِلَ لاحقاً، وفي اللحظة التي ألقي القبض عليه، طرح تساؤلاً ينتمي إلى الدائرة الزمنية الضائعة ذاتها، قال: شِنْ فِيْ/ ماذا هناك؟ فكل هذه القذائف التي سقطتْ على مسمعه، لم يتعلّم منها أنّ الزمن يجري إلى الأمام، فطرح سؤالاً ارتجاعياً غبياً، فكأنه كان يعيش في أوهام الماضي وخيالاته الزائفة. فما كان من الثوار أنْ يسكتوا أنفاسه ليموت هو وزمنه في طلقة واحدة في القلب الذي لا يرى ولا يسمع إلا الزمن الماضي/ زمن الاستبداد.
سياسةُ الوقت الضائع
نشر في: 23 أكتوبر, 2011: 07:27 م