حسن متعب باستثناء الفكر الديني، الذي هيمن مؤخرا على ساحة العمل السياسي في العراق، فإن الفكر السياسي العراقي كان ومازال انعكاسا لتطورات ومتغيرات الفكر العربي والعالمي، ولم يستطع الوعي المحلي أن ينتج على مدى قرن من نشوء الدولة العراقية الراهنة، فكرا يتعامل مع حقائق المجتمع كما هي، وأن يجد الحلول التي من شأنها أن تلبي حاجة المجتمع وسعيه لتحقيق وجوده الراهن
وعلى عكس الانطلاقة القوية لمنظومات العمل الحزبي في مرحلة العمل الدستوري في عشرينيات القرن الماضي وما تلاها، فان بروز التيارات القومية واليسارية، شل حركة العمل الوطني وغيّر اتجاهات الفكر السياسي العراقي من منتج إلى مستهلك لقوالب فكرية عاشت، خارج الساحة المحلية صراعات أيديولوجية دولية وإقليمية انتهت بتراجعها الذاتي، وهزيمتها الميدانية مما ألحق خسارة كبيرة بالمجتمع وأضاع عليه الفرصة في الريادة كما كان حاصلا في بداية القرن الماضي.. أما الفكر السياسي الديني فانه في الأساس معتمد على موروث ثقافي تاريخي، غير قابل للتمدد والتعامل بمرونة مع تحديات العصر الذي سيطرت عليه المعرفة العلمية التي تجاوزت سلطتها في المجتمعات المتقدمة سلطة الموروثات اللاهوتية، فيما بقيت مجتمعاتنا ترزح تحتها.. ومشكلة الفكر السياسي في العراق دائما، هي القفز على الحقائق وعدم النظر بوضوح إلى طبيعة المشاكل الاجتماعية آنيا ومستقبلا ، ولذلك فإننا دائما نتجه باتجاه معاكس للأهداف، ونجانب الحلول حتى وان كانت بسيطة، ناهيك عن انه كان بكل اتجاهاته فكرا شموليا قائما على الاجتثاث وعلى الإيمان المطلق بأنه الفكر الأوحد بنزعة تزكوية تطهيرية في الوقت ذاته.. ومهما كانت درجة الانفتاح اليوم، ومهما كان التشبث بالنظام الديمقراطي كخيار وحيد متاح، إلا أن الحقيقة القائمة هي أن السياسي في العراق عاجز تماما عن إيجاد وسائله للتعامل بمرونة وقوة مع متطلبات التقدم والنمو، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وهذا العجز ليس عجزا شخصيا، أي ليس بمعنى أن السياسي لا يمتلك الطموح في أن يكون على مستوى التحديات التي تواجهه في إدارة الصراع بين رغباته وبين وسائله، إلا انه في الحقيقة أسير أوضاع اجتماعية مغلقة ومنغلقة في الوقت ذاته وعلى مدى زمن طويل، وحاضرا أسير عملية سياسية صنعت لكي تبقى تدور في حلقة مفرغة، واليوم تحديدا يعيش السياسيون تحديات هي الأخطر من نوعها على مدى عمر الدولة العراقية الحديثة، وهم واقعيا منقسمون إلى انتماءات طائفية ومذهبية فيما يحلمون ويتحدثون عن دولة وطنية قوية حديثة وموحدة.. إلا أن ثمة فارقا كبيرا بين الذي يمتهن السياسة كمهنة دفع إليها بظروف سياسية، وبين الذي يمتهنها وهو يحمل في عقله وروحه فكرا سياسيا معينا ذا أهداف طموحة تتعلق بمستقبل هذا الشعب، وهؤلاء هم الذين يحركون المجتمع ويخلقون الأحداث التي يجري عليها التوافق السياسي والاجتماعي أو تلك التي تثير النزعات والخلافات داخل الأروقة الرسمية أو في المحافل الدولية مثلما تدفع بالمؤيدين إلى التعصب والتطرف أكثر مما تدفعهم إلى الانسجام أو التفاعل السياسي كجزء من الممارسة الديمقراطية.. هذه الفكرة تنسجم تماما مع الفكرة القائلة إن هذا العصر هو عصر الأفراد (النخبة) إذ أن عصر الجماهير قد ولى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وضعف وانحسار الأفكار اليسارية، تلته هزيمة الفكر القومي بل وإزاحته بعمليات قيصرية هنا وهناك، لينتهي إلى الأبد الفكر الثوري الذي شغل الناس طوال خمسة عقود من الزمن العربي وأكثر من ذلك على المستوى الكوني، وبهذا فقد أصبح الفضاء السياسي العراقي شأنه شأن الفضاء العربي مهيأ للفكر الديني بمذاهبه واتجاهاته المتعددة وبما لا يفسح المجال مطلقا لأية تنويعات أخرى مهما كان موروثها السياسي، أو عمقها التاريخي وتأثيرها الاجتماعي، ولعل صورة القوميين واليسار العراقي حاليا دليل واضح على أن الساحة لا تتسع الآن للسجال الفكري مثلما كانت في منتصف القرن الماضي بقدر ما هي مفتوحة للنزاعات السياسية ذات الطابع الشخصي والفئوي الطائفي والمصلحي الآني دون الأخذ بنظر الاعتبار مصلحة ومستقبل هذا الشعب، ومن البديهي أن تكون نتائج هذه الصراعات عرقلة إرادات الآخرين سواء كانت إرادات خيرة أو شيطانية ولا تهدف إلى إيجاد الطرق الأفضل والوسائل الأسلم لخدمة الشعب وتطلعات المواطنين مع حساب حقوق الأجيال القادمة، ومن البديهي أيضا أن ينتشر الفساد داخل العملية السياسية لأنها في الأساس محكومة بالصفقات المتبادلة ما دام الأمر كله يتعلق بإثبات الوجود الطائفي، وتحقيق الأهداف الفئوية التي تسعى إليها أطراف المعادلة السياسية بحجج وادعاءات تتعلق بحقوق المكونات سواء الأغلبية منها أو الأقلية.. وبذلك توقف ولو إلى حين الفكر السياسي من مناقشة مستقبل الشعب الذي هو جزء من المجتمع الدولي وعليه آجلا أو عاجلا أن يكون فعالا في التلقي وفي التأثير.. وأيضا توقف المواطنون عن التطلع إلى أهداف ابعد من حلول آنية لمشاكل اقتصادية واجتماعية أطبقت عليهم منذ أكثر من عقد مضى تتعلق بلقمة العيش والأمن والكهرباء، فلم يعد الحديث مثلا عن العولمة والحداثة ممكنا إزاء مصائب يومية يعيشها المواطن، مثلما لم يعد الحديث عن الهوية العراقية الواحدة أهم بكثير من مفردات الشراكة السياسية للمكونات المذهبية والعرق
ســؤال مؤجّـل إلـى حيـن
نشر في: 31 أكتوبر, 2011: 05:24 م