عدنان حسين أحمد أبو ظبي لم ينسَ المخرج الفرنسي المتحدِّر من أصول مغربية إسماعيل فروخي، صاحب (الرحلة الكبرى)، المواطنينَ المغاربة الذي أقاموا طويلاً في عموم المدن الفرنسية ولم يُحسبوا ضمن التعداد الرسمي للسكّان الفرنسيين الأمر الذي جعلهم مُهمّشين لا ينتمون رسمياً إلى الفرنسيين ولا يُحسَبون في الوقت ذاته على الأجانب الطارئين الذين قد يتركون فرنسا في أية لحظة يشاءون.
لقد قاتل هؤلاء الرجال المغاربة من أجل تحرير فرنسا، وتحقيق الحرية للمواطنين الفرنسيين، ولكنهم هُمِّشوا من التاريخ وتم إقصاؤهم ومحوهم من الذاكرة الجمعية للشعب للفرنسي.فلا غرابة أن يعود المخرج إسماعيل فروخي الذي يحمل هموماً فرنسية ومغربية مشتركة إلى التذكير بهؤلاء الرجال الشجعان الذين ضحّوا بأرواحهم من أجل الحرية والكرامة والعيش الرغيد الذي لا تنغّصه همجية النازيين ودكتاتوريتهم البربرية المقيتة.تقع أحداث (رجال أحرار) في عام 1942 حينما فرض الحكم النازي سيطرته المطلقة على باريس وبقية المدن الفرنسية وما رافقها من قمع ومصادرة للحريات الخاصة والعامة. وهي ذات الحقبة الزمنية التي وصل فيها يونس (طاهر رحيم) إلى باريس وبدأ يعتاش على بيع السلع الغذائية في السوق السوداء، الأمر الذي يعرّضه إلى نتائج لا تُحمد عقباها. وحينما تعتقله الشرطة الفرنسية متلبساً بالجرم المشهود لا يجد بُداً من العمل لمصلحتها حيث يكلّفه أحد الضباط بالتجسس على جامع باريس الذي تحوم حوله شكوك عديدة من بينها أن مؤسس الجامع وإمامه سي قدّور بن غبريت (مايكل لوندال)، الذي يحمل لقب وزير الخارجية ومبعوث سلطان المغرب يُصدر وثائق سفر مزورة لليهود ولأعضاء في المقاومة الفرنسية إلى المحتل النازي الذي خطف حريات الناس وارتهنهم في وضح النهار.لا يعتمد فروخي على السير والإحالات الواقعية فقط مثل سيرة الشيخ بن غبريت وقصة المطرب سليم الهلالي (لعب الدور محمود شلبي)، وإنما ذهب أبعد من ذلك حينما اجترحت مخيلته المجنحة شخصية يونس الذي وافق مضطراً على العمل كجاسوس على جامع باريس الذي أصبح أنموذجاً للتعايش السلمي بين الأديان لأن الشيخ بن غبريت لا يفرّق بين مسلم ومسيحي ويهودي، لذلك أصبح الجامع ملاذاً لليهود والسياسيين والمنبوذين اجتماعياً الذين يخشون من الاعتقال أو الترحيل القسري. ثمة مشاهد مؤلمة يندى لها جبين الإنسانية خجلاً حينما يرى الأفعال الدنيئة التي يرتكبها الجيش النازي ضد هؤلاء الضحايا الذين ضاقت بهم الأرض، لكن جامع باريس اتسع لهم واحتواهم وأنقذهم في خاتمة المطاف من وحشية العقل النازي.ثمة علاقة حميمة تنشأ بين يونس، الشخصية المتخيلة التي اجترتها موهبة فروخي، وبين المطرب سليم هلالي الذي كان يغني أغاني أندلسية ويحيي بعض الحفلات الغنائية هنا وهناك. ونظراً لحاجة يونس الماسّة فقد باعه ذات مرة (دربوكة) ثمينة ظل سليم يستعملها في حفلاته الخاصة وأغنياته الأندلسية ذات الأصول الجزائرية العريقة. وحينما تتعمق أواصر الصداقة بين الشابين يكتشف يونس أن صديقه المطرب يهودي فيقرر قطع علاقته بالشرطة الفرنسية ويكف عن التجسس، وحينما تتفاقم علاقته بالشرطة الفرنسية وما يشاهده بأم عينه من ضرب وتقريع ومطاردة لليهود والمسلمين والمنبوذين اجتماعياً من قبل النازيين والمتعاونين معهم من قوات الشرطة الفرنسية يقرر يونس الانضمام إلى المقاومة لمقارعة الظلم والاستبداد. ثمة مشاهد مؤثرة لا ينساها المتلقي بسهولة مثل مشهد الهروب بطفلة جميلة أو مشهد المواجهة المسلحة مع قوات الشرطة التي كانت تلاحق المقاومين في كل مكان تقريباً غير أن يونس كان يتصدى لهم في الأزقة والشوارع والمناطق المفتوحة وينال منهم الواحد تلو الآخر. وعلى الرغم من بساطة القصة السينمائية ذات المرجعية الواقعية إلا أنه طعّمها بنوع من الخيال المستحبّ الذي فعّلها وأشبعها بالخطاب البصري والصور السينمائية الرصينة التي تبقى في ذاكرة المتلقي لمدة طويلة من الزمن بعد أن عجنَ مفرداتها الفكرية بنسغ المحبة والتسامح متجاوزاً كل أشكال العنف والكراهية ونابذاً سياسة الإقصاء والتهميش التي تعرّض لها الفرنسيون المغاربة وأشقاؤهم في المقاومة والنضال.جدير ذكره أن إسماعيل فروخي من مواليد القنيطرة بالمغرب وقد أنجز عدداً من الأفلام التلفازية والسينمائية نذكر منها (المجهول) و (زوج الأحذية) و (الرحلة الكبرى) إضافة إلى (رجال أحرار) الذي فاز بجائزة أفضل مخرج من العالم في الدورة الخامسة لمهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي لعام 2011.
يدعو إلى تعزيز ثقافة المحبّة والتسامح ونبذ العنف والكراهية
نشر في: 2 نوفمبر, 2011: 06:14 م