ميسلون هادييا لها من مفارقة من مفارقات القصص الخيالية، أن تدق الساعة الثانية عشرة فتجد بغداد نفسها عاصمة للثقافة العربية بعد عام ونصف العام.. فكيف يا ترى ستنظر لها زوجة الأب الشريرة في المرآة؟.. كيف ستقتلها دون الحاجة إلى تفاحة مسمومة؟.. هل بوجهها العسكري الأمني الذي انتفخ وتضخم وأصبح ضرورة حتمية من ضرورات الجوع للمال والعطش إلى السلطة.. أم بأعداد كبيرة من مثقفيها تتمنى العودة إلى الوطن ولكن لا أحد يريد لها أن تعود؟.. وكيف تعود وتدخل من باب الجنرالات إلى مكان لم يلمسه التغيير إلا بالغبار ورائحة الباذنجان المقلي وبقايا العشاء التي تملأ مناضد غرف تفتيش النساء في دوائر الدولة ومؤسساتها من الساعة الثامنة وحتى الساعة الثانية عشرة؟
ويا لها من مفارقة أخرى أنّ الخراب، الذي يتمثل في الكآبات التي تجد عليها بنايات الدوائر العراقية (وهي كآبات ليس لها اسم في القواميس)، يكون في أبشع حالاته في وزارة الثقافة تحديداً حيث انقلبت الآية هناك وأصبحت حتى الثريات سوداء اللون من شدة الوسخ وبدلاً من أن تتحول المكناسة إلى لوحة فنية أو تحفة أدبية فقد تحولت لحية القاضي إلى مكناسة. ولو كان الملا عبود الكرخي حياً الآن لضرب رأسه بالحائط بدلاً من تكسير المجرشة حزناً على وزارة من المفروض أن تكون ملأى بالثقافة والمثقفين ولكنك بدلاً من ذلك تجدها هائجة بجيش من السواق والحمايات والمنظفات وعشرات موظفي الاستعلامات والإدارة ومكاتب الوكلاء والمدراء.. هؤلاء كلهم على العين والرأس.. ولكن يؤلم القلب أن نفتقد في الوزارة وجود المثقفين الذين كانت أروقة الوزارة ومصاعدها في ما مضى تعج بهم فرادى وزرافات. ولولا ثلة من الزملاء القدامى أجدهم متفرقين هنا وهناك لانمحت كل الأسماء من البال. أما الحملان من المنسيين الذين لا يريد أحد فتح الباب لهم بعد أن خرجوا ولم يعودوا، فكيف يدخلون؟ ومن أي باب؟ من الباب الخلفية الشاهقة السوداء المحاطة بالأزبال والأنقاض أم من الباب الأمامية المخصصة للوزير وحاشيته فقط.. هذا ما رأيته بعيني. أما ما سمعت به فإن المدرعات والكلاب البوليسية تحيط أي دائرة ثقافية ينوي وزير الثقافة زيارتها بعد أن أصبح وزيراً للدفاع... فهل هذا هو وجه بغداد الحقيقي الآن لمن يريد الدخول إليها من باب وزارة الثقافة أو من أبواب متفرقة؟ والغريب إنك على كثرة ما تتعثر به من أعداد المنظفات اللواتي يتجولن في وزارة الثقافة، فلن تجد ممراً نظيفاً واحداً بالمعنى العطر للنظافة. هذه الحالة من الرثاثة ستجدها في كل دوائر العراق، وكأن دوائرنا قد أصبحت انعكاساً للفشل المكاني الذي تعانيه المظلومة بغداد. والدليل على ذلك إن بعض الصحف الرسمية ذات الأسماء الرنانة تجدها موجودة في قلب المزابل والحفر مما يدل أن لا أحد يهتم بما يكتبه أصحاب الضمائر الحية من مقالات، وهكذا ستسير الأمور في المدينة التي تحولت بناياتها البشعة إلى خرائب وبعد سنوات ستعتاد عليها العيون بالتدريج مثلما ستعتاد النفوس على الخمول بعد إصدار أوامر إدارية بتعيين خمسين عاملاً لا يعمل وخمسين منظفاً لا ينظف وخمسين موظفاً لا يتحرك من مكانه ولا ينجز أي شيء ، وكأن اليأس قد أمسك بتلابيب العقول المقفولة على أرقام الراتب.. بينما الحمايات والرشاشات تقول إنك داخل إلى قلعة حصينة من قلاع المنطقة الخضراء. لا أقول هذا الكلام من باب التجريح بموظفي وزارة الثقافة وعلى رأسهم السيد الوزير، فأنا أعلم أنه والكثير منهم على خلق رفيع، والرجل يقرأ المقترحات التي يتقدم بها المثقفون والمثقفات، ويهمش عليها بأجمل كلمات الامتنان (لتذهب منه مباشرة إلى غياهب النسيان في مكاتب أخرى).. ولكني أقوله من باب الألم على حال الوضع العراقي بشكل عام والذي أصبح يُفقدنا الأمل بسبب خموله ونحوله وبهذلة أروقته التي لم تستطع أشجار بلاستيكية قبيحة المنظر أن تمحو كآبته . وعلى ما يبدو فإنه كلما زادت الرواتب تردى الذوق العام لعاصمة الثقافة الحجرية ذات المزابل الكبرى، وانعكس هذا التردي على كل شيء حتى على الملابس والأبواب والجدران. وليست وزارة الثقافة استثناءً من هذا الوضع فهي (تروش) بموظفين يعتقدون أن الوزارة خُلقت من أجل الرواتب وليس من أجل الثقافة والمثقفين الذين رمت بهم الأقدار إلى (تلفات الدنيا) داخل العراق وخارجه .لقد أصبحنا ندور في حلقة مفرغة.. غياب أصحاب الذوق الرفيع سيؤدي إلى تردي الجمال في البلاد، وتردي الجمال في البلاد سيؤدي إلى تمسكهم بدول المنافي واللجوء.. وليس هناك من يفكر جدياً بكسر هذه الحلقة وتفكيكها بالتي هي أحسن وذلك بتشجيع الكفاءات على العودة بشتى الأفكار والطرق، ولا يحتاج الأمر إلى وزارة جديدة أو لجان تقبض ولا تفعل شيئاً، بل هو يحتاج فقط إلى نيات صادقة ومخططين جيدين مشهود لهم بالكفاءة والاستقامة والإخلاص في العمل. وهناك قصة حدثت في سبعينيات القرن الماضي وتم من خلالها استقطاب العقول والكفاءات العراقية، بطريقة تكريم بسيطة ولكن ذات مفعول، وهي تخصيص سيارات حديثة وقطع أراض سكنية شملت جميع الاختصاصات من حاملي الشهادات العليا وأصحاب الكفاءات ولحد الآن تسمى السيارات المرسيدس ذات اللون الأخضر الفاتح على أنها (كفاءات) والسبب في ذلك يعود إلى فكرة.. وما أحوجنا في هذا الزمن الصعب إلى التفكير بكل وسيلة ممكنة لتعديل الحال المائل الذي يعانيه البلد حيث تجد وتلمس ظاهرة مؤلمة في دول الجوار تتمثل بذهاب مريض عراقي للعلاج عند طبيب أخصائي عراقي ولكن المكان ليس عراقياً بل هو عيادة أو مستشفى أردنية. أما هجرة الأدباء والمثقفين من ذوي الميول ا
((إفتحوا الباب إحنا العزيزين))
نشر في: 20 نوفمبر, 2011: 06:48 م