عبد الخالق كيطانعلى ما تقول الكتب، وكذلك الأصدقاء الذين عاشوا في عراق ما قبل الجمهورية، كان السؤال الذي يسأله المتحاورون إذا اشتد بينهم الحوار هو: حضرتك يميني لو يساري؟، والسؤال يمثل في حد ذاته لمحة عن نخب العراق في ذلك الزمان. السؤال في هذه الأيام صار شيئاً آخر: سعودي لو إيراني؟
والمضحك، ما خص كتاب أعمدة الرأي بشكل عام في الصحافة العراقية، إن سؤالاً مثل هذا لا يطرح بصيفة الاستفسار، بل بصيغة الاتهام. وكتاب الرأي، المحايدون، جلهم اتهموا بالولاء لإيران أو للسعودية، وفي أحيان لكليهما معاً، فماذا يكشف ذلك؟وغير كتاب الرأي، تطالعك في المجالس الخاصة اتهامات من هذا النوع إذا ما عبرت عن فكرة قد لا تتوافق وهوى الآخرين. وهي اتهامات تكشف عن عمق الفجوة الطائفية في البلاد بعد التغيير، حيث صارت الهوية الطائفية هي المقياس الوحيد لصدقية الناس في مواقفهم وأفكارهم. فكيف تحولت مصطلحات النقاش من الاستفسار الفكري (يميني أو يساري) إلى الاتهام الطائفي؟علماء الاجتماع هم الأقدر على تفكيك هذه المسألة، وهم يخبروننا عن المحن التي اخترقت الوطن فاعادت الناس إلى مذاهبهم الأولى التي صارت حامياً لهم ولعاقائدهم، بل لوجودهم بلغة أدق. أما كيف يمكن أن تغادر الشعوب مثل هذه التخندقات فأمر ليس باليسير. الأمية هنا تصبح طوق النجاة لكثيرين يهمهم بقاء الحال على ما هو عليه، وبالتالي سهولة قيادة الناس. ومسألة تصدير مشاكلنا إلى الجوار كانت ستراتيجية امتهنها نظام صدام، وكانت من ثمراتها عمليات غزو الكويت. وللأسف الشديد فإن هذا الداء قد تسرب إلى نفوس الناس على اختلاف مشاربهم، وصار التمييز الفكري بين سين وصاد إنما يقاس بولاءه المفترض لدولة الجوار هذه أو تلك. وتكشف الأحداث الدموية الجارية في سوريا عن الأزمة البنيوية في العراق، بين من نظر إلى ما يحدث بوصفه "مؤامرة إيرانية" وبين من يراه "اياد سعودية"، وبين التوصيفين قدر للصوت الحر أن يغيب. لا يمكن أن تشرح للمؤمنين بهاتين الفكرتين خطأ ما يتصورونه، وإن الحراك الشعبي السوري هو بالأصل قضية داخلية سورية سببها تراكم سياسات دموية ما لم يعد ممكناً السكوت عليها. أما التدخلات الإيرانية أو السعودية فهي لا يمكنها أن تصنع شيئاً أمام إرادة الشعب. لقد تضخّمت الهوة في التفكير بين الجانبين ووصلت حدّ الاقتتال الطائفي في الأعوام الماضية، ويذهب كثيرون إلى أن شبح الاقتتال ليس بعيداً في العراق، تغذيه على الأرجح خطابات طائفية سياسية ناهيك عن ممارسات وقرارات يتخذها هذا الطرف أو ذاك فيزيد من تعقيد الوضع في العراق. ومن الأمور اللافتة في هذا السياق النظر إلى أي ممارسة فكرية قد يقدم عليها كاتب على إنها تأتي بسبب خلفياته الطائفية، أما إذا وافق رأي كاتب من طائفة معينة هوى آخر من طائفة ثانية فيكون الشك بهذ الشخص مضاعفاً. أين حريته الفكرية؟ لا أحد يعبأ!أجيال عراقية عديدة ولدت وعاشت وتربت على فكرة الحزب الواحد والرأي الواحد.. ومثل هذه الأجيال ستكون ضحية مناسبة وسهلة للاتهام بالعمالة، على العكس من مناخات التعددية التي تحيل الناس إلى أفكار أكبر من الأفكار الطائفية الضيقة.
عين: حضرتك يميني لو يساري؟
نشر في: 20 نوفمبر, 2011: 07:47 م