محمود عبد الوهاب rnوهج العمر الجميل وعصارة الأخطاء البريئة والطريق إلى إيثاكا، ذلك هو زمن النشأة الأدبية وفجر البدايات، غالباً ما تكون بيضة البدايات اختلاقاً لحكايات وهميّة، حشرُ قليلٍ من طحين الواقع في زُبدة الأكاذيب، هكذا كان خيال الصبي الذي كنتُه.. أليس التخيل هو امتياز السرد وإحدى ضروراته، هل كنتُ أنا الصبي بدشداشته المقلّمة،
المتربّع على طابوق عتبة داره، المتحلّق حوله صبيةُ المحلة مُصغين إلى تلفيقاته النزقة، هل كنت أنا (حكواتياً) في ذلك العمر المبكّر!rnكانت الحرب العالمية الثانية تشتعل، ونحن الصبية نشتعل معها، ببراءة وجهل، نصنع من حكاياتها ومن خيالاتنا أكداساً من القصص في انحياز إلى العتوّ الذي كان عليه هتلر من دون أن ندرك شروره على العالم، كنت أستسلم، في ذلك الوقت، الى ميولٍ ذاتية وفطريّة متعددة: المسرح والسينما والرسم والقراءة ومحاولة الكتابة، انطفأ لهيب ذلك الهوَس في ضحى البدايات، واستأثر بي ميلٌ مفرط الرقّة الى القراءة وتجويد الكتابة في دروس الإنشاء والنشرات الجدارية ضمن النشاط المدرسي.rnحسمُ الميل أو الخيار أو النزوع إلى أن تكون كاتباً هي نقطة الانطلاق إلى الكتابة، تلك هي نصيحة الروائـــي البيرويّ ماريـو بارغاس يوسَا إلـى روائيّ شــاب، وهـي مفــتاح الكهف السحري : افتح يا سمسم، وحدساً حسمت موقفي وارتضيت الكتابة انحيازاً.rnسُئلَ جرير عن شعر عمر بن أبي ربيعة، قال: "مازال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر"، وهكذا كانت البدايات : ذاتية محمومة، وانبهار بالقراءة، وتفاخر بالفهم على سذاجته، والدخول في مناقشات لا مجدية في نسق من البراءة وتأكيد الذات.rnتنتاب البدايات "أعراض" قد يُستثنى منها القليل: الإدعاء بتمام المعرفة والتظاهر بها، والنزوع إلى تخطئة الآخر، والوهم الذاتي بإعجاب "الأخرى" الصامت بالكاتــب الوليد، تـلك هي أدوار "الاستحالة" من الطفل المدلل الحالم حتى نهوض قامة الكاتب.rnالبدايات مهما بدت ساذجة ولا منطقية الاّ إنها الظلال الداخلية للمبدع الذي سيكون، يذكر الروائي والمسرحي الألماني (مارتين جريجوري ديللين): أنه في الخامسة عشرة من عمره، حينما كان يرقد في فراشه مريضاً، استهوته الكتابة واجتذبته انفعالاتها، تناول الورقة والقلم وبدأ يكتب نصّه الأول الذي نسي عنوانه، ثم عزم، بعدها، على أن يكرّس حياته للكتابة بعيداً عن الالتزام بأية وظيفة، حتى أصبح "اسماً" بين أعلام المبدعين الألمان في السبعينيات.rnحملني مقال نشره الناقد المصري المعروف أنور المعدّاوي على الكتابة ردّاً على ما جاء في مقاله المنشور في مجلة الرسالة المصرية التي كان يرأس تحـريرها الكاتب الكبــير أحمـد حسن الزيـات (العدد 939/ سنة 1951) وكان المعداوي قد تناول الواقعية وأشار الى أنها "النقل المباشر لصور الحياة وطبائع الأشياء" وقد فهمتُ من قوله عن "النقل المباشر" أنه "النقل الفوتوغرافي" الذي هو صدى لمقولة أفلاطون: "إن الفن تقليد للطبيعة" وطالبتُه، (ويا للعجب!) أن يجيب عن أسئلتي التي وردت في ردّي عليه (العدد 948 في 7/سبتمبر/1951).rnبدأت مقالتي بمعلومات انتقائية وبإشارات مقتضبة وبلغة أستاذية متعالية محاولاً تصويب (يا لغطرستي!) ما جاء في مقال الأستاذ المعدّاوي، وقد عقّب المعدّاوي في المجلة ذاتها على ما جاء في مقالي بحدّة وتهكّم أحياناً (العدد 950/ 17 سبتمبر 1951) ثم تلت تعقيبات وردود أغلق، بسبب حدّتها الأستاذ الزيات هذا الباب.rnالدرس الذي أفدتُه من ذلك، أن الكتابة ليست تحديّاً شخصياً قائماً على أوهام، لكنّها تعديل وإضافة معرفية مدعومة بحقائق وقرائن في المجال الذي يتدارسه الكاتب.rnأعجبُ من مغامرة النشر في بداياتنا، وأفخرُ بها لو جاءت بإســناد معرفي تعزيزاً وإقناعًا. أتذكر هنا ما كان يقوله بورخس: كلّما عدتُ الى البدايات أتساءل منْ هو هذا الأحمق الذي كتب مثل هذه السذاجات!
حماقة البدايات
نشر في: 30 سبتمبر, 2009: 04:52 م