TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > منطقة محررة: وصـايـا سيرفـانتيـس التي لم تعد تعمل

منطقة محررة: وصـايـا سيرفـانتيـس التي لم تعد تعمل

نشر في: 29 نوفمبر, 2011: 06:36 م

 نجم واليفي مدخل القسم الأول لروايته الخالدة (دون كيخوته) (1605) لجأ مؤسس الرواية العالمية، الأسباني سيرفانتيس إلى اختراع شخصية على شكل صديق مجهول يزوره فجأة، للرد على شكوك راودت الروائي ذاته، في ما يتعلق بجودة الرواية. هذا الحوار الذي يوظفه المؤلف كبيان يعلن فيه نواياه وتصوراته عن مفهوم الرواية،
 يؤكد بوضوح ريادة سيرفانتيس كأول روائي معاصر، بسبب طبيعة عمله السردي وكتابته أول رواية في التاريخ، أسست لفن الرواية اللاحق، وبسبب أسلوبه الأدبي الجديد، وعلاقته المغايرة لما كُتب من روايات فروسية آنذاك، بالإضافة إلى مشروعه الذي أراد السير عليه ككاتب. فبعيداً عن ترك مصير الكتاب لقدره (الإلهي)، وبعيداً عن فرض الكتاب لنفسه بفضل الحاكم ونفوذ السلطة لجأ سيرفانتيس إلى القراء مباشرة وشجعهم على إصدار الحكم على كتابه بحرية واسعة. "اسعوا أيضاً إلى أن يقرأ المكتئب قصتكم فيتحول للابتسام، أما طلق المحيّا فتتحسن أحواله أكثر، والبسيط لا يغضب، والكتوم يندهش للابتكار، والشخص المهم لا يقلل من قيمتها، والفطين لا يكف عن ثنائها"، تلك كانت المداخلة الأخيرة للصديق الغامض المتعلم، التي تقدم لنا الوعي الأدبي الذاتي لمؤلف (دون كيخوته)، وتبين لنا التعاليم الأولى التي على الكاتب مراعاتها لكتابة رواية، والتي عليه أن يضعها على باله قبل دفع كتابه للطبع. هذا يعني، أن أكبر روائي على طول هذه القرون الخمسة الماضية، يأمل وصول ما يكتبه إلى الناس، بمختلف طباعهم وبالمستوى نفسه: للأحمق وللذكي، للحزين وللفرِح، للمثقف وللقارئ العادي.لكن المفارقة الكبيرة هي أن الكتّاب، منذ منتصف القرن الماضي بدأوا السير باتجاه آخر. فبعد أن طغت على مدى كل السنوات الماضية، والعقود الثلاثة الأخيرة خصوصاً، التصريحات (الثورية) جداً بسبب دعواتها الحداثوية، والتي دعت إلى كل شيء، باستثناء دعوة سيرفانتيس. وإنها لمفارقة أن الكتب التي اشتهرت، وأثنى عليها النقاد، هي تلك التي كتبها مؤلفون أعلنوا على الملأ بأنهم لا يأملون أن يكونوا مقروئين إلا من أصدقائهم، وإنهم كتاب مقلون، يصدرون كتاباً واحداً كل خمس سنوات، ووصل الأمر عندنا في البلدان بالعربية أن يُشاع، وخاصة بعد رواية (مائة عام من العزلة) لماركيز ظاهرة تذييل الكتب بتاريخ بداية كتابة الرواية الذي يستغرق أكثر من عشر سنوات (أمر رائع لو كانت الروايات أخيراً بقيمة عناء سنوات كتابتها)، لتصبح القلة في الكتابة هي مرادف مقياس الكاتب الناجح.في سنوات الستينات والسبعينات، وحتى أواخر الثمانينات، تبنى موقف الكتابة للنخبة بحمية كتّاب عديدين، رفضوا قوانين السوق وسخروا من الحديث عنها، وما أزال أتذكر كيف أن بعض كتابنا سخروا من بيع الكتاب، لأن البيع يجعل الكتاب بضاعة يرفضونها، هكذا تحولت الشهرة عندهم محصورة بالنخبة (المختارة)، لأنفسهم فقط، مستهينين بكل أولئك القرّاء الذين اقترح جذبهم للقراءة سيرفانتيس.والآن هم ذاتهم دعاة النظرية الأرستقراطية، يلجأون للسوق، ويكتبون كل سنة كتاباً، بل يمكنني ذكر أسماء كتاب (ارستوقراطيين) سابقين من سورياليين ودادادئيين ووجوديين يتهاتفون على نشر ثلاثة كتب في سنة واحدة، ويتزاحمون على الجوائز العربية الفاسدة التي لوثت عفونتها الهواء الثقافي. فإذا كانت سنوات الستينات وسنوات السبعينات، والثمانينات هي سنوات الأرستوقراطية الأدبية، فإن سنوات التسعينات، وبما حملته من خراب للأرستوقراطية "النوعية"، أنعشت فيهم روح السوق الهابّة بقوة، والتي استفحلت في بداية القرن الجديد، لدرجة ألا أحد يمكنه التكهن حتى الآن بما ستؤول إليه مساراتها النهائية. لكن هناك أمراً واحداً ثابتاً، هو أن تلك الروح الهابّة لا تسير بالاتجاه الذي ذهب إليه سيرفانتيس، لأنها وضمن الشروط الفالتة التي تتحرك بموجبها، هي مشوهة، منحرفة، وفاسدة، وخاصة في حال سوق متخلفة مثل السوق (الأدبية) العربية، التي تُفرض فيها البضاعة بقوة النفوذ والسلطة والأحزاب ومزاج أصحاب القرار قبل كل شيء، ولا تلعب فيها قيمة البضاعة الدور الرئيسي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram